اليوم الأخير من أسبوع الصلاة لأجلِ وحدة المسيحيين
عيد اهتداء القديس بولس
بقلم: الأب د. سالم ساكا
بعد سبعة أيام من افتتاح أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين الذي يبدأ يوم 18 كانون الثاني من كلِّ عام. تُختَتم فعالياته في اليوم الثامن، أي في يوم 25 من نفس الشهر. وهو اليوم الذي يقع فيه عيد إهتداء القديس بولس. في هذه الصفحات سوف نرى كيف أنَّ نعمة الله تُحوِّل شاؤل وتُغيِّره الى بولس بعد اهتدائه، وأنَّ الربَّ يعتمد علينا أيضاً كما اعتمدَ على الرسول بولس في مواصلة تبشير الأمم كلِّها بيسوع المسيح، ربّاً ومخلِّصاً، وأخيراً لنتعلَّم كيف نتَّخذ الرسول بولس نموذجاً لنا لتحقيق الوحدة بيننا نحن المسيحيين وبين الكنائس التي ننتمي إليها.
نعمةُ الله تُحوِّل:
كان بولس مدافعاً شرساً عن شريعة موسى. وفي نظره كانت ديانة المسيح الجديدة تُشكِّل خطراً على الديانة اليهودية، ديانة الآباء والأجداد والتقليد. ولذلك فهو لم يتردَّد في تكريس كلِّ جهوده لإبادة المجتمع المسيحي وأتباع المسيح والمؤمنين به. لقد وافق على موت استفانوس بكر الشهداء، ولم يرض بعد إلاّ بالأكثر، “وَأَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ يَسْطُو عَلَى الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ يَدْخُلُ الْبُيُوتَ وَيَجُرُّ رِجَالاً وَنِسَاءً وَيُسَلِّمُهُمْ إِلَى السِّجْنِ” (أعمال الرسل8/3). عليه يتوجَّه إلى دمشق، حيث تأصَّلت بذرة الإيمان. يتوجَّه إليها بكلِّ سلطته ليقودَ بالسلاسل رجال ونساء أورشليم، أتباع تعليم المسيح، “أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّدًا وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ الرَّبِّ، فَتَقَدَّمَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ. وَطَلَبَ مِنْهُ رَسَائِلَ إِلَى دِمَشْقَ، إِلَى الْجَمَاعَاتِ، حَتَّى إِذَا وَجَدَ أُنَاسًا مِنَ الطَّرِيقِ، رِجَالاً أَوْ نِسَاءً، يَسُوقُهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ” (أعمال الرسل9/2). لكن الربَّ كان لديه خطط أخرى مختلفة وتدبير آخر مختلف تماماً. والآن بالقرب من دمشق “وَفِي ذَهَابِهِ حَدَثَ أَنَّهُ اقْتَرَبَ إِلَى دِمَشْقَ فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ السَّمَاءِ، فَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ وَسَمِعَ صَوْتًا قَائِلاً لَهُ: «شَاوُلُ، شَاوُلُ! لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟» فَقَالَ الرَّبُّ: أَنَا يَسُوعُ الَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ” (أعمال الرسل9/3-5).
لنْ ينسى القديس بولس أبدًا هذه الرؤية وهذا اللّقاء الشخصيّ مع المسيح القائم من الأموات. إذْ، وبعد سنواتٍ عديدة، وبعد أنْ أصبح شاهدًا لا يكلّ ولا يستحي من الإيمان بالمسيح رباً ومخلِّصاً، حيث كان يتذكَّر ذلك مراراً وتكراراً: “وَآخِرَ الْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لِي أَنَا. لأَنِّي أَصْغَرُ الرُّسُلِ، أَنَا الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً لأَنْ أُدْعَى رَسُولاً، لأَنِّي اضْطَهَدْتُ كَنِيسَةَ اللهِ. وَلكِنْ بِنِعْمَةِ اللهِ أَنَا مَا أَنَا، وَنِعْمَتُهُ الْمُعْطَاةُ لِي لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً، بَلْ أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ. وَلكِنْ لاَ أَنَا، بَلْ نِعْمَةُ اللهِ الَّتِي مَعِي” (1كورنثس15/8-10).
عند التفكير في هذه المشاهد، بامكاننا أنْ نسأل: ما هو الاستعداد الذي كان لدى القديس بولس عندما أسقطه المسيح في الطريق، وتركه أعمى، ودعاه إلى الرسالة؟ لا أحد يستطيع الاجابة على ذلك. ومع ذلك، عندما يجيب هو نفسه ويقول: “فَقَاَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ: يَارَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: قُمْ وَادْخُلِ الْمَدِينَةَ فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ” (أعمال الرسل9/6). لقد اختاره المسيح ليكونَ مُبشِّراً، ليكونَ رسولًا .إنَّ كلَّ الحماس الذي دفعه سابقًا لاضطهاد المسيحيين يقوده الآن – بقوَّة جديدة أعظم ممّا كان يحلم به – إلى نشرِ الإيمان بالمسيح في جميع أنحاء الأرض. ولن يثنيه شيء عن أداء مهمَّته: فقد اتَّسمت حياته وتحلَّتْ بذلك اللّقاء على طريق دمشق، الذي كان بداية دعوته.
الربُّ يعتمد علينا أيضاً:
إنَّ وحدة المسيحيين المنشودة هي عطيَّة يجب أنْ نطلبها بإلحاحٍ من الروح القدس. إنَّ النعمة، إنْ كانت نعمة، كما يذكر القديس أغسطينوس، “تُعطى مجانًا” (القديس أغسطينوس، روايات في المزمور31)؛ ونحن نعلم أنَّ الله يريد أنَّ جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحقِّ يقبلون (1تيموثاوس2/4)؛ ونعلم أيضًا أنَّه لهذا السبب يعتمد على تعاوننا، لأنَّنا – من خلال حياتنا وكلماتنا – نشهد للفرح الذي يمنحه العيش مع المسيح. في ضمن هذه الرسالة، ما سأله القديس بولس نفسه عندما كان يُفكِّر في الأشخاص المحيطين به هو دائمًا صحيح: “فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ الْمُبَشِّرِينَ بِالسَّلاَمِ، الْمُبَشِّرِينَ بِالْخَيْرَاتِ؟” (رومية10/14-15).
إنَّ الأساس الذي ارتكز عليه القديس بولس في عمله الدؤوب لنقلِ الإنجيل هو لقاؤه الشخصي مع يسوع: “ألستُ أنا رسولاً؟ أما رأيتُ يسوع ربِّنا؟” (1كورنثس9/1). فقط من خلال العودة المتكرِّرة إلى تلك اللحظة، وتجديد ذاكرتها يوميًا، تمكَّن رسول الأمم من جذبِ الكثير من الناس للقاء ذلك الذي غيَّر معنى حياتهم بشكلٍ جذري. وهناك دائمًا، في لقائنا مع المسيح، سنجد الدافع للتَّعاون في جمعِ جميع المسيحيين معًا مرة أخرى. لاحظ البابا بندكتس السادس عشر، في معرض إحاطته بالقوَّة ذاتها التي حَرَّكَتْ القديس بولس، أنَّه “في نهاية المطاف، الربُّ هو الذي يجعل الإنسان رسولاً، وليس افتراضه الشخصيّ؛ الرسول لا يَصْنَعَ نفسه، بل الربّ هو الذي يصنعه. لذلك، فهو بحاجةٍ إلى الرجوع إلى الربِّ باستمرار. يقول القديس بولس بوضوح أنَّه رسول بالدَّعوة (بندكتس السادس عشر، المقابلة العامة،10 تشرين الأول، 2008).
بامكاننا أنْ نتخيَّل الظروف التي عاش فيها القديس بولس: إمبراطورية هائلة تعبد آلهة باطلة وتتعارض فيها العادات مع حياة مَنْ إتَّبعوا يسوع وأصبحوا له تلاميذ. في تلك اللّحظة وفي مثل هذه الظروف كانت رسالة الإنجيل العكس تماماً لما هو موجود في البيئة؛ لكنَّ القديس بولس العارف، الذي ذاق فرح كونه لله، ينطلق بثقة إلى الكرازة، ويفعل ذلك في كلِّ لحظة، حتى وهو مُلقى في السجن. وإذْ يعلم جيدًا أنَّ اللّقاء الحقيقي مع المسيح وحده هو الذي يمكن أنْ يقودنا إلى السعادة، أوضح القديس بولس لأهلِ كورنثوس الأسباب التي دفعته إلى التبشير: “لا نريد أنْ نسيطر على إيمانكم؛ بل نحن شركاء في فرحكم” (2كورنثس1/24).
بولس الرسول نموذج لنا لتحقيق الوحدة:
تعلَّموا الصلاة، يقول القديس برنردس، تعلَّموا البحث، تعلَّموا السؤال، تعلَّموا أنْ تقرعوا: حتى تجدوا، حتى تنالوا، حتى يُفتح لكم. إنَّ أفضل طريقة لكي يمنح الربًّ كنيسته نعمةَ وحدةِ جميع المسيحيين هي المثابرة على الصلاة. وهذا ما يُعلّمنا إيّاه القديس بولس: حالما ساعدوه على النهوض من الأرض، ذهب إلى دمشق، “فمكثَ ثلاثة أيامٍ لا يبصر ولا يأكل ولا يشرب” (أعمال الرسل9/9)؛ وفقط بعد هذا الوقت المخصَّص للصلاة والتَّوبة، يرسل الله خادمه حنانيا: “فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: اذْهَبْ! لأَنَّ هذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ اسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ. لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي” (أعمال الرسل9/15-16). وإذْ ندرك أنَّ كلَّ نشاط رسولي – حتى وحدة المسيحيين المرغوبة – لا يعتمد حصريًا على قوَّتنا، فإنَّ الشيء الأكثر أهميَّة هو استعدادنا الأكثر ملائمة لاستقبال عطايا الله. وكلُّ ما يساعدنا على تحفيز هذا التوافق الداخلي حتى يتمكَّن المسيح من تحقيق إرادته. العامل فينا هو عمل رسولي بارز. لذلك يمكننا أنْ نقولَ إنَّ الصلاةَ وروح التَّوبة هما الطريقان الرئيسيّان اللذان يقوداننا نحو المسكونية: في الواقع، وحده يسوع يستطيع أنْ يُحرِّك القلوب. ولهذا السبب بالذات سأل البابا فرنسيس نفسه: “كيف يُمكننا أنْ نعلنَ إنجيل المصالحة بعد قرون من الانقسامات؟ إنَّ بولس نفسه هو الذي يساعدنا على إيجاد الطريق. ويصرُّ على أنَّ المصالحة في المسيح لا يمكن أنْ تتمَّ بدون تضحية. لقد بذل يسوع حياته، ومات من أجل الجميع. وكذلك سفراء المصالحة مدعوّون إلى بذلِ حياتهم باسمه، لا ليعيشوا لأنفسهم، بل للّذي مات وقام من أجلهم” (البابا فرنسيس، عظة، 25 كانون الثاني 2017). إنَّ اهتداء القديس بولس هو نموذج يدفعنا نحو الوحدة الكاملة. وأنَّ الكنيسة، من خلال مثال حياة الرسول، تُظهر لنا الطريق: اللقاء مع المسيح، الاهتداء الشخصي، الصلاة، الحوار، العمل معًا.
في الأيام التي تلت صعود الربِّ يسوع القائم من الأموات الى السماء، كان التلاميذ “يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ، مَعَ النِّسَاءِ، وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ، وَمَعَ إِخْوَتِهِ” (أعمال الرسل1/14). إنَّنا نثق بشفاعةِ أمِّنا مريم لكي تتحقَّق، كما حدث حينها، الوحدة بين جميع المسيحيين: حتى نجتمع يومًا ما مرة أخرى، معًا، بجانبها.
صلاة لأجلِ وحدة المسيحيّين.
أيّها الربُّ يسوع،
يا مَنْ صلّيتَ لِنَكونَ كُلُّنا واحداً،
نُصلّي لكَ من أجلِ وَحدَة المسيحيين،
كما تُريدُها أنْتَ،
وبالسُبْلِ التي تُريد.
وَلْيُعطِنا رُوحُك القُدوسُ
أنْ نَشْعُرَ بالألمِ لإنقِسامَاتِنا،
وأن نُدْرِكُ خَطيئَتَنَا،
وأن نَرْجو ما يَفوقُ كُلَّ رجاءٍ. آمين.