فلسفة الشاعر الصوفي محي الدين بن عربي
بين اليوم والبارحة
إعداد أ. نوئيل فرمان السناطي
بقلب يعتصره الأسى، تأتي هذه السطور، في بلاد يطالها التعصب، وتنحرها الطائفية والتمييز، وتعيش حلم العصر الذهبي والنهضة الفكرية والأدبية. إذ تعود بالقلم الحزين، الذاكرة الأدبية وما يُصدى لها من زمن غابر شهد الانفتاح والعنفوان الإنساني، لتتغنّى هذه الاسطر بفكر الشاعر والفيلسوف العربي المتصوف خالد الذكر محي الدين بن عربي. ولد في بلدة مرسية في الأندلس سنة 1164. وتوفي سنة 1240 في الدولة السورية اليوم بحاضرها المأساوي، في عاصمتها دمشق يوم كانت مشرقة بالعز والحضارة. ودفن في سفح جبل قاسيون.إنه عالم روحاني من ابرز متصوفة زمانه. وكان من العلماء الأندلسيين المتنورين، شاعرًا وفيلسوفًا، فأصبحت أعماله ذات شأن كبيرٍ حتى خارج العالم العربي.
وإذ يصدي الموقع البطريركي، بأفكار تدعو إلى الانفتاح وقبول الاخر بعيداً عن خطاب الكراهية والعنف، هذه أبيات للشاعر الكبير، في الشأن المتصل، إذ قال:
يوم أنكر صاحبي .. إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ .. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ
ِوبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ .. وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قران
أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ .. ركـائـبهُ، فالحبُّ ديني وإيماني.
هكذا سيدي القارئ، قد يكون لبعض الاحداث تأثير محدود في زمان ومكان معين، منها ما اقترفته القاعدة وداعش من إثم تاريخي في إجبار البعض على تغيير دينهم، وتهجيرهم، ناهيك عن التنمر والنعوت التي تطلق من البعض باتجاه المختلف عنهم كوضع حرف (ن) على بيوت المسيحيين في الموصل وبلدات سهل نينوى. هذه الوقائع المتخلفة، لها اسباب عديدة تأتي من التقاليد او التربية المنزلية او حتى التعليم ، ولكنها في النهاية تتقاطع مع شرعة حقوق الانسان !
إنها تصرفات مهما كان مصدرها تبقى معرضة للمُساءلة، أمام التاريخ، وأمام القانون الدولي، فهي بالضرورة تخضع لشروط معينة واحكام محددة دعت إليها؛ لكن حتى هذه الاحكام مختلف عليها من طائفة إلى طائفة ومن تشريع إلى تشريع ومن بلد إلى بلد ، في النهاية، خطورة هذه الأفعال، تكمن في انها تخضع للمزاج او التأثير المجتمعي والعشائري .
إزاء كل هذا نجد ان لا حكم الردّة ولا الجهاد ولا الإكراه ولا الاجبار على سلوك معين هي من الاخلاق طالما هى تمسّ الحياة والحرية والكرامة الانسانية للاخر المختلف !!! وبالتاكيد انها تخضع اليوم إلى محنة كبيرة ستؤدّي إلى انحسارها وبالتالي غيابها في المشهد الانساني ( العلاقات) وهذا له أسبابه الكثيرة ومنها:
قد تجد للمفارقة، مثقفًا مسلمًا لا يخاف من المختلف عنه، لا بل يناقشه بالتي هى احسن. مثله هو مثل المعتدلين وما اكثرهم في هذا الزمن، وقد أخذوا يشكلون تيارًا كبيرًا في المجتمع . على أن الأمر المهم والسؤال الذي يطرح نفسه بشدّة : لماذا، يا تُرى، الخوف من افكار الاخر ؟؟ لماذا تريده ان يتغير ؟ اين نموذجك الاخلاقي لكي يقتدي به المختلف عنك ؟
وقبل الاستخلاص بشأن مسالة الإكراه في الدين او الردّة، لا بدّ من القول ان هذه الدائرة المخيفة وراءها حلقات جهنمية، أخطرها حلقة الطائفية. واذا ما دخلت فيها، إيها المضطهِد، فانك سوف تتصرف مع المختلف معك بالدين بعين الطريقة التي تتصرف تجاه المختلف معك بالطائفة، واسوأ دليل دموي على ذلك، ما شهده العراق أبان احداث 2006-2007؛ وكذلك النكبة التي حلّت به مع داعش في 2014 . أما الدليل الاخر المأساوي، فهو ما شهدته سوريا لأسابيع خلت، من احداث الساحل السوري التي تشي بدرس بليغ في خطورة ان يكون الدين سلعة بيد حامل البندقية !!!
أوربا مثالا:
وأخيراً وليس آخرًا، يجدر في هذا المقام الاستشهاد بحالة الاسلام والمسلمين في البلدان غير المسلمة كإنموذج للمعاينة والاعتبار. إنه انموذج اوربا، المواطنون فيها يخضعون إلى دستور وقانون بلدانهم وليس لشيء آخر. ذلك أن الدول في الغرب ليس لها دين بل لها قانون ! بل أن ما يتمخض عنه الوجدان البشري الأصيل، المنحوت في الضمير الانسان، هذا الضمير الذي يجد سلامه في الخير، ويعيش الاضطراب أمام الشر. وبالتالي ما يتمخض عنه هذا الوجدان، هو المحبة. أجل إن المحبة تكفي لأن تحكم العالم، بعدل وإخاء، تلك المحبة التي تغنى بها جبران خليل جبران، المعروف بخطه المدني، في كتابه (النبي). تلك المحبة التي فتحت جناحيها لتتساوى في ظلها كل القيم الإنسانية، وجاء ذكرها في انجيل يوحنا (13: 34) عن لسان يسوع المسيح: “وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا.”.