الصوم: زمن الجهاد والنضوج الروحي
المطران المتقاعد رمزي كرمو
اسطنبول 20 شباط 2025
يعتبر زمن الصوم الكبير، الذي سوف يبدأ قريباً، والذي يستمر لمدة سبعة أسابيع، من أهم أزمنة سنتنا الطقسية والليتورجية وذلك لأنه يهيئنا للأحتفال بأكبر وأهم أعيادنا المسيحية، أي عيد القيامة المجيد الذي هو أساس إيماننا والموضوع الرئيسي الذي تبشر به الكنيسة منذ أكثر من ألفي سنة. يذكرنا بولس الرسول بأهمية ومركزية حدث القيامة في رسالته الأولى الى أهل قورنتس قائلاً: “أُذَكِّرُكم أَيُّها الإِخوَةُ البِشارةَ الَّتي بَشَّرتُكم بِها وقَبِلتُموها ولا تَزالونَ علَيها ثابِتين، وبِها تَنالونَ الخَلاصَ إِذا حَفِظتُموها كما بَشَّرتُكم بِها، وإِلاَّ فقَد آمَنتُم باطِلاً. سَلَّمتُ إِلَيكم قبلَ كُلِّ شيَءٍ ما تَسَلَّمتُه أَنا أَيضاً، وهو أَنَّ المسيحَ ماتَ مِن أَجْلِ خَطايانا كما وَرَدَ في الكُتُب، وأَنَّه قُبِرَ وقامَ في اليَومِ الثَّالِثِ كما وَرَدَ في الكُتُب” (فصل 15/ 1 – 4). كذلك يدعونا زمن الصوم الى التفكير عميقاً في مسؤوليتنا كمسيحيين مُرسَلين الى العالم لنشهد لذلك الذي مات وقام من بين الأموات.
إن الأزمة التي تعاني منها الكنيسة اليوم ليست أزمة عدد، إذ يبلغ عدد المسيحيين ما يقارب مليارين ونصف منتشرين في كافة دول العالم، إن الأزمة الحقيقية هي أزمة إيمان الناتجة عن عدم النضوج الروحي وعدم الشعور والالتزام بالمسؤولية الملقاة على عاتق كل من إقتبل سر العماد المقدس. إن المسيحي الفاتر والذي لا يشهد للمسيح من خلال حياته اليومية يضطهد الكنيسة من الداخل، علماً إن الاضطهاد الذي تتعرض له الكنيسة من الداخل هو أخطر بكثير من الإضطهاد الذي تتعرض له من الخارج. الإضطهاد الذي يأتي من الخارج يقوّي إيمان الكنيسة لأن دم الشهداء هو مصدر نِعَم وبركات كثيرة أما الاضطهاد الداخلي يقوّض الإيمان ويزرع الشك في قلوب الناس.
إن الكنيسة المقدسة، أمّنا ومعلمتنا، تدعونا إلى أن نستثمر زمن الصوم استثماراً جيداً لإنعاش وتقوية حياتنا الروحية ولكي نكتشف أكثر فأكثر هويتنا المسيحية ورسالتنا التبشيرية في عالم يريد أن يعيش من دون الله. الصوم يدعونا إلى البحث عما هو جوهري وأساسي لحياتنا والإبتعاد عن كل ما هو سطحي و ظاهري وسريع الزوال. نقرأ في الأنجيل المقدس، بأن ربنا والهنا يسوع المسيح، له كل السجود و الإكرام والمجد، صام أربعين يوما وأربعين ليلة في البرية وانتصر خلالها على تجارب الشيطان الثلاث والتي كانت تدور حول: إشباع اللذات الجسدية وحب المال والثروة الدنيوية والانجراف وراء مجد العالم الباطل. (راجع متى 4/ 1 – 11). إن تجارب يسوع الثلاث هي تجارب كل واحد منا اليوم. لكن على عكس يسوع الذي قاومها ولم يسقط فيها لأنه صلّى وتمسك بكلام الله الحي، نحن غالباً ما نسقط فيها والأسوأ من هذا نتعود عليها بسبب إهمالنا للصلاة ولكلام الله. إن زمن الصوم الكبير هو زمن العودة، بقلب تائب وعزم ثابت، الى ينبوع حياتنا المسيحية أي الصلاة وكلام الله الحي. لنتذكر ونتأمل في جواب يسوع لتلاميذه حينما قالوا له: “يا معلم كُلّ، فقالَ لَهم: “لي طَعامٌ آكُلُه أَنتُم لا تَعرِفونَه…… طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه” (يوحنا 4/ 31 – 34). نعم، إن الصوم المسيحي هو أن نشعر قبل كل شيئ بجوع حقيقي الى كلام الله الحيّ. الصائم هو ذلك الذي يصلّي ويتغذى بكلام الله لكي يخرج ظافراً من معركته مع تجارب الشيطان الثلاث. لنتأمل مرة أخرى فيما يقوله يسوع بهذا الخصوص: “وهذا الجِنسُ مِنَ الشَّيطانِ لا يَخرُجُ إِلاَّ بالصَّلاةِ والصَّوم” (متى 17/ 21).
من المؤسف جدا أن يقتصر الصوم لدى الكثيرين من المسيحيين فقط على الانقطاع عن أكل اللحم والصيام حتى الظهر، هكذا صوم هو عبارة عن نظام غذائي يقلل من وزن الجسم وليس له أي ارتباط بالصوم الذي يطلبه منا ربّنا والهنا يسوع المسيح. لا ننسى بأن صوم الجسد من المأكولات إذا لا يرافقه صوم القلب من الخطيئة فإنه باطل وليس له أية قيمة إيمانية وروحية. هذا ما يقوله لنا الرب يسوع في الأنجيل المقدس: “ودعا الجَمعَ ثانِيةً وقالَ لَهم: أَصغوا إِليَّ كُلُّكُم وافهَموا: ما مِن شَيءٍ خارجٍ عنِ الإِنسان إِذا دخَلَ الإِنسانَ يُنَجِّسُه. ولكِن ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان. ولمَّا دخَلَ البَيتَ مُبتَعِداً عنِ الجَمْع، سأَلَهُ تَلاميذُه عَنِ المَثَل، فقالَ لَهم: أَهكَذا أَنتم أَيضاً لا فَهمَ لكم؟ أَلاَ تُدرِكونَ أَنَّ ما يدخُلُ الإِنسانَ مِنَ الخارِج لا يُنَجِّسُه، لأَنَّهُ لا يَدخُلُ إِلى القَلْب، بل إِلى الجَوْف، ثُمَّ يَذهَبُ في الخَلاء. وفي قَولِه ذلك جَعَلَ الأَطعِمَةَ كُلَّها طاهِرة. وقال: ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان، لأَنَّهُ مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة. جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه” (مرقس 7/ 14- 23). على ضوء هذه الآيات نستطيع القول بأن الصوم الذي يطلبه منا يسوع هو صوم التوبة النابعة من أعماق القلب، وهكذا التوبة هي عمل الروح القدس في حياتنا وتمنحنا نعمة النضوج الروحي وفرح الإلتزام برسالتنا التبشيرية والشهادة ليسوع المسيح الحي. نعم، الصوم الذي يريده منّا المسيح هو ان ننفتح على سر الله الذي هو محبة والذي يفرح بعودتنا إليه تائبين كعودة الأبن الشاطر إلى أبيه. (راجع لوقا 15/ 11 – 24).
كما أن الصوم يدعونا إلى الانفتاح على سر الله الذي هو محبة كذلك فإنه يدعونا إلى الانفتاح على سر القريب الذي هو كل إنسان. لا نستطيع أن نفصل محبة الله عن محبة الأنسان. لنسمع ما يقوله يوحنا الرسول بهذا الخصوص.
“إِذا قالَ أَحَد: إِنِّي أُحِبُّ الله وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِباً لأَنَّ الَّذي لا يُحِبُّ أَخاه وهو يَراه لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه” (رسالة يوحنا الأولى 4/ 20-21) و (متى 5/ 43-45). وبصورة خاصة، يتطلب منا زمن الصوم، أن ننفتح على إخوتنا الفقراء والمحتاجين والمتألمين، الذين تشبَّه بهم يسوع، لنتقاسم معهم ما وهبنا الله من خيرات روحية ومادية. لنعلم جيداً، إن ما سوف يقرر مصيرنا الأبدي يوم الدينونة الأخيرة هو فقط موقفنا تجاه هؤلاء الإخوة والأخوات، طوبى لنا إذا كان موقفنا موقف رحمة ومحبة والويل لنا إذا كان موقفنا منهم موقف لا مبالاة وبعيداً عن الرحمة والمحبة. (راجع متى 25/ 31-46).
لنصلِّ ونحن في سنة اليوبيل، سنة الرجاء، كما أعلنها قداسة البابا فرنسيس، أن يكون صومنا صوم توبة حقيقية نشهد من خلالها على إيماننا الثابت وثقتنا المطلقة بالله الذي هو محبة والتزامنا بوصية المحبة تجاه القريب التي هي أهم الوصايا التي أوصانا بها ربنا والهنا يسوع المسيح له كل الإكرام والمجد والسجود. “وصِيَّتي هي: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً كما أَحبَبتُكم” (يوحنا 15/ 12).
أرجو من الذين يقرأون هذه الأسطر أن يُصلّوا من أجلي كي أعيش ما تبقى لي من الحياة الأرضية بالإيمان والرجاء والمحبة وشهادة الحياة حتى النهاية. مع الشكر ولنبقَ متحدّين بالصلاة رباط المحبة الذي لا ينقطع.