وحدة المسيحية بين الواقع والسراب
المونسنيور نوئيل فرمان السناطي
ما يزال الشهر الأول من العام 2025، يتنفس نسيم اسبوع الصلاة لوحدة المسيحيين. هذا ما أعادني إلى ايام زمان حين طنت في الخامس والسادس الابتدائي في مدرستنا الكلدانية شمعون الصفا، عندما كنا نتدرب على اداء ترتيلة “أبناء أم واحدة. ولصغر السن لم تنطبع في ذاكرتي صورة قسس بقلنسوات مختلفة، كانوا يشاركون في صلاة كاتدرائية مسكنتة.
عندما قدمت الى كندا، دأبنا في الخورنة الفرنسية على اقامة قداس مع جماعة فيلبينية كاثوليكية بهذا الاسبوع. ولأن الموضوع يأتي من المؤمنين أساسا، بدأت أتفاجأ في الاعوام قبل وما بعد كورونا برئيسة واعضاء مجلس الخورنة وقد اعدوا برنامجا مستفيضا للصلاة باللغتين الفرنسية والانكليزية، وما علي إلا ان ادعو الى المشاركة اصدقائي القسس من الكنائس الرسولية الكاثوليكية الشرقية والارثوذكسية. وبعد القداس يسألني المؤمنون، ابونا لقد لاحظنا قسسا لم يتناولوا معك. فنقلت لهم ما نقله لي احد الكهنة المعنيين: “خابرت المطران عن اللقاء : فنصحني بالحضور ومن دون المشاركة بشيء”. وبعد اقناعه اعطيته صلاة لا تتعلق بسياق اسراري، فقام بتلاوتها بشجاعة .
الروح يجدد ويحيي شرط الا نغلق الباب امامه
هذا المقال، يتناوب بين القيام بالاحتفاءات بهذه المناسبة وبين طروحات البطريرك لويس روفائيل ساكو، مع التطلع أمام الحالتين إلى ما يجدر القيام به من خطوات.
حديث الارقام بشأن الكتلة المسيحية عالميا
يبلغ المسيحيون في العالم حوالي المليارين والنصف.
الكتلة الاولى الكاثوليكية تضم المليار و329 مليون بينهم 18 مليون من مؤمني الكنائس الشرقية المتحدة مع روما مستقلة عن شقيقاتها الارثوذكسية.
الكتلة الثانية تبلغ 900 مليون للمجموعات البروتستانية، 300 مليون منها متجذرة بحركة الاصلاح وفروعها الخمسة: اللوثرية، الكالفينية، الانكليكانية، الانجيلية والمعمدانية. و600 غير المتجذرة بحركات الاصلاح. مع عدد تسميات مستقلة عن بعضها بلغ 47 ألف تسمية بموجب الاحصائيات الاخيرة، وكانت تحصى قبل سنوات بـ 49 الف. أما تسميتها المجازية عموما فهي الكنائس الانجيلية لسهولة تداول الاسم. بحيث يطرق بعض مؤمنينا الكلدان لبرهة، إذا سمعوا باسم شماس انجيلي، ليتأكدوا بانه ليس من الكنيسة الانجيلية، بل هو قارئ انجيل، كما حدث وكان يزور كنيسة الصعود بعهد القس جميل، شماس انجيلي، حسبوه كذلك، حتى اخرج سبحته الوردية عندما عرض عليه أن يكرز.
الكتلة الثالثة هي الكنائس الرسولية الارثوذكسية ويحمل عدد منها تسمية الكنيسة الارثوذكسية الجامعة، وترجمتها بالانكليزية في شهادات العماذ الكاثوليكية، وهذا يسهل انخراط أولادهم في المدارس المسيحية، مع الحاجة احيانا إلى تأييد كاهن كاثوليكي، وهي تنضم مذهبيا إلى كنائس شرقي أوربا واليونان، وتبلغ احصائيا 220 مليون، مقارنة بالرقم قبل سنوات والذي كان ينعت بالتخميني غير الاحصائي 400 مليون.
فيكون الرقم الدقيق لمجموع مسيحيي العالم: ملياران و449 مليون، وفق دائرة معلومات العالم المسيحي التي تتبع السياقات الاحصائية لمركز ابحاث بيو في امريكا.
الارقام والتحديات الاجتماعية القيمية والاخلاقية
يتحد المسيحيون بجناحيهم الكاثوليكي والارثوذكسي على الايمان المتوارث من الرسل. ويجتمعون بالايمان المسيحي المشترك مع المجموعات البروتستانتية، المتأسس على الايمان بالرب يسوع المسيح كلمة الله المتجسد المولود عجائبيا من القديسة مريم الطوباوية، والمصلوب لخلاص البشر والقائم من بين الاموات. وينسجم المسيحيون بالجناجين المذكورين مع الكنائس التقليدية الخمسة المتجذرة في الاصلاح والشرقية منها خصوصا بالقيم الاجتماعية والاخلاقية المتوارثة في التقليد المسيحي. لكن التحديات المذهبية عند البروتستانت عندما تخرج عن هذا السياق الايماني المذكور، مثل المورمون وشهود يهوه وسواهم فيعدون خارج الكتل المسيحية،
على انه لا بد من القول ان نسبة كبيرة من المسيحيين، منجرفة بتأثير العولمة إلى عدم الممارسة، فهم مسيحيون بالاسم وقد يكون العماد. اضافة إلى أنه بسبب التوالد المتزايد والمتسارع في التسميات لدى الكتل البروتستانتية غير التقليدية (الـ 600 مليون) فهذه المجموعات تنجرف نحو سياقات اخلاقية واجتماعية خارجة عن التقليد المسيحي المتوارث عبر القرون، من ذلك الزواجات غيرالرسمية، والعلاقات المشتركة بين المنتمين للجنس الواحد. وما يشكلونه من لوبي متنفذ في العالم الغربي، بحيث يتم التحفظ على تسميتهم بالشواذ، او حاملي نقصا فيزيولوجيا.
أمام هذا المد الجارف، هناك ضرورة الى التآزر والتكاتف بين الكنائس الرسولية، مع ترك ابوابها مشرعة للقادمين من المجموعات البروتستانتية، بعد ان يكون انجرافهم إلى الليبرالية المنفلتة، لهاثا نحو سراب له بداية وليست له نهاية. ويبقى من المطمئن كما اسلفنا، ان هذه المجموعات التي رأت النور في المجتمعات الشرقية، تحافظ على القيم الاجتماعية الاصيلة متأثرة بالمحيط، ومرتبطة بالنسيج الاجتماعي المسيحي المنسجم مع تلك الاعراف والقيم.
القوالب الاجتماعية والانتماءات القووية للشرقيين وصراعات الزعامة
أكتب ككاهن خدم في الكنائس الغربية الكاثوليكية لاكثر من عقد ونصف من السنين، مع التواصل مع كنائس كاثوليكية بانتماءات اثنية وثقافية متنوعة. أبقى حائرا أمام تحفظات بعض الكهنة بين الكنائس الشرقية الرسولية في التقارب بالخدمة والصلوات المشتركة. ولا استطيع البت في طبيعة التعامل بين الاساقفة الكاثوليك الغربيين واقرانهم الشرقيين الكاثوليك، إلا اني ما سمعت يوما ان ثمة مواجهة في التصريحات والمواقف من ابرشية غربية كاثوليكية ضد الاخرى. مثل ما اسمع من تكتلات كاثوليكية ضد تكتلات كاثوليكية بين الابرشيات، وتحالفات كاثوليكية وارثوذكسية ضد تحالفات كاثوليكية وارثوذكسية، كلها محكومة بالانتماءات القطرية في بلدان الشرق الاوسط، بصرف النظر عن الشركة الكاثوليكية التامة، والشركة الرسولية العقائدية بين الكاثوليك والارثوذكس. كما انه للاسف بات من الطبيعي ان يكون تجمع الكاثوليك والارثوذكس في التعامل والتعاون المشترك وكأنه لا وجود لكنائس تقليدية اصيلة متجذرة في الاصلاح.
على ان ما يمكن عدّه فاضحا ومشككا، هو الاختلافات المناطقية والاثنية والقومجية ما بين الابرشيات للكنائس الرسولية، بل وبين كتل الرسولية سواء الكاثوليكية منها او الارثوذكسية. والمحزن ان يجد المرء نفسه امام المقارنة المزدوجة الاتية:
عندما يتعامل الكهنة في الابرشية الواحدة ضمن اقدمية الرسامة الكهنوتية، وما نعرفة عن اقدمية الرسامة الاسقفية، حتى في صور الابتسامات التذكارية، وإذا بنا امام المصاف الاسقفي والرئاسة الكنسية في الكتلة الرسولية الواحدة، فإن كل ابرشية، تجعل ذاتها كدولة مستقلة ورئاسة مستقلة وكأنها منعزلة عن الشركة الكاثوليكية التامة، وبلا اي اعتبار للعمادة الرئاسية في القطر الواحد، والمحزن “بامتياز” إذا صح التعبير ان الخلافات على قدم وساق في صراع الزعامة، بدون اية اعتبارات، ليبق رئيس الابرشية كزعيم قبيلة واحدة.
على ان هذا الصراع قد ينجر إليه تجاه زعيم العشيرة الوحدة، كما حدث في زمن طفولتي وكنا بتماس مع عائلة المطران الراحل جرجس قندلا، حين انتهى الامر به في حوالي نهاية الخمسينات الى الاستقالة ليحل محله في مطلع الستينات مطران آخر خالد الذكر مار عمانوئيل بني.
من هذا أود أن اكتب ككاهن في الكنيسة الكاثوليكة، مستنكرا هذه الانتماءات الطائفية المناطقية والفئوية. مشيرا إلى ان المأساة هي في هذه الخصوصية الانتمائية المناطقية في مشرقنا. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى إن التحديات التي تواجه مسيحيينا بكل كنائسهم، تقتضى ان تكون مهمازا للعودة إلى جذور الوحدة في الشركة التامة والشركة الرسولية إضافة إلى الوحدة المسيحية المسكونية. واجرؤ على القول ان المؤمنين بحصافتهم لا بد لهم أن يميزوا الغث من السمين في الخلافات، وان تكون لهم مطالبة متسمة بالغيرة الانجيلية والوحدة المسيحية. وعودة إلى عنوان المقال، فهل الوحدة حلم يمكن لمسيحيينا التطلع نحوه، ام ستبقى محض سراب.