تعامل القرأن الكريم مع المسيحيين
الكاردينال لويس روفائيل ساكو*
العراقيون المسيحيون بالرغم من ان جذورهم ضاربة في عمق تاريخ العراق، عانوا من التنظيمات المتشدّدة وخطاب الكراهية كثيراً. قصتهم حزينة للغاية. ويعتمد رجاء بقائهم في وطنهم وتواصلهم مع مواطنيهم على العلاقة الطيبة وضمان كرامتهم وشعورهم بالمساواة. الدين يعزّز كرامة الإنسان ولا ينتهكها. هذه قيمة أساسيّة.
الإسلام بالمعنى المجازي الشامل يعني موقفاً روحيّاً لمن أسلم وجهه لله مثل إبراهيم الذي عاش قبل المسيحية نحو 1812 سنة، والإسلام كمصطلح ديني مُحَدّد هو ما بشَّر به الرسول محمد وهو موضوع احترام.
القرآن يعترف بالمسيحية تحت مسمى“أهل الكتاب”“منْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آثنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ” (سورة آل عمران 113). ويحثُّ على التعامل مع المسيحيين بالموَدّة والحسنة: “وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ” (سورة المائدة 82)، و “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” (النحل 125). |
القرآن يعترف بالتعددية الدينية“إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ” (الحج 17)، و”إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون” (البقرة 62) و “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ” (المائدة 69). |
والرسول ذاته تزوج بمسيحية “خديجة بنت خويلد” وبعقد مسيحي، بحيث أنه لم يتزوج بأخرى في حياتها. واستقبل وفد مسيحيّي الحبشة الذي أرسله ملكهم النجاشي، والسماح لهم بالصلاة في مسكنه بالمدينة المنورة.
القرآن يقرُّ بالإنجيل“وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ” (سورة آل عمران 4) و “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ” (الإنعام 114).ثمة آيات صريحة تثبت ذلك منها: “وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” (المائدة 47) و “وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ” (المائدة 46)، “الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ” (البقرة 121، 146)، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” (الأنبياء 7)، و”فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ” (يونس 94). |
القول بان الإنجيل محرّف غير وارد أبداً. اننا نستعمل نفس الإنجيل قبل القرأن وبعده، بدليل إن المخطوطات القديمة، ومنها ما يعود إلى القرن الثاني الميلادي إلى جانب مخطوطات كاملة من القرن الثالث والرابع، تطابق النص الحالي. وان جميع المسيحيين على اختلاف كنائسهم لهم نفس الإنجيل وهو مترجم إلى مئات اللغات، فكيف يكون محرفاً؟ وأين النسخة الاصلية حتى يقارَن بها ونتأكد من التحريف؟ إذا كان الله قد انزل الإنجيل على المسيح وهو كلامه فكيف لا يحرسه ويحافظ عليه من التحريف والتزوير؟ يقول عباس محمود العقاد: “سواء رجعت هذه الأناجيل: متى ومرقس ولوقا ويوحنا، إلى مصدر واحد أو أكثر من مصدر، فمن الواجب إن يدخل في الحسبان أنها العُمدة التي اعتمد عليها قوم أقرب الناس إلى عصر المسيح، وليس لدينا نحن قرابة إلفي سنة عُمدة أحقّ منها بالاعتماد” (حياة المسيح، سلسة كتاب الهلال، العدد 202 ، مصر 1968 ص 210).
القرآن يميّز المسيح عن الآخرينورَدَ اسم المسيح في 93 أية قرآنية. ولقد أضفى عليه صفات وكرامات عظيمة: “كلمة الله” و “روح الله” و “الوجيه عند الله” و “وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا” (مريم 21).ما من بشر غير المسيح لقَّبه القرآن بهذه الألقاب“إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ” (آل عمران 45). وتختلف معجزة ولادة المسيح عن ولادات الاخرين: “وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ” (الأنبياء 91).ويعترف بقيامتهويستعمل كلمة رُفِعَ وهي مستعملة في انجيل يوحنا (12/ 32، 3/ 14): “إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ” (آل عمران 55).إتيانه بالمعجزات “وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ” (البقرة 87). |
مريم العذراء
ذَكر القرآن اسم مريم 24 مرة. وثمة سورة تحمل إسمها: “سورة مريم“، كما أن سورة آل عمران تحكي عنها. “وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ” (آل عمران 42). وعن رقادها: “وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ” (المؤمنون 50).
مريم هي السيدة الوحيدة التي نالت هذا الإنعام دون سائر النساء، ونكاد نجد كل مراحل حياتها مذكورة في القران. هناك قصة تقول: عندما جاء الرسول الي مكة ودخل الكعبة، امر بتحطيم جميع الاصنام إلّا أيقونة صغيرة لمريم وابنها! وفي التقوى الشعبي الإسلامي لمريم مكانة خاصة.
اعتقد ان هذه الآيات عن السيد المسيح والسيدة العذراء لم يَطلها النسخ.
المرحلة اللاحقة
بسبب الوضع الاجتماعي والتفسيرات المتناقضة والتداعيات، نجد الإسلام يشدّد على انه الدين الوحيد للقبائل آنذاك: “إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ” (سورة آل عمران 19). وهناك آيات اخرى بنفس الاتجاه. كما تغير الموقف مع أهل الكتاب: “قَاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤمنونَ باللَّهِ ولا بِاليومِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ورسُولُه ولا يَدِينونَ دِينَ الحَقِّ من الَّذينَ أُوتُوا الكِتَابَ حتَّى يُعْطُوا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وهم صَاغِرُون” (التوبة 29).
الخاتمة
يتطلع الجميع الى مستقبل للتسامح الديني والعيش معاً كإخوة وأخوات بأمن وأمان وإحترام.
لقد تغيَّر الوضع والفكر والثقافة عن القرون الأولى. اليوم يعيش الناس في مجتمع متنوع ومتعدد الأديان والمذاهب سماوية كانت أم أرضية. وأن الأديان مفصولة عن نظام (دساتير) معظم دول العالم. ثمة ضرورة قصوى لفكر منفتح ومستنير يحترم كل الديانات، بعيداً عن خطاب التخوين والتكفير والكراهية. مجتمع يعيش فيه الناس باحترام وسلام واستقرار على أسس الاخوّة البشرية (وثيقة الاخوّة البشرية التي وقّعها البابا فرنسيس مع شيخ الازهر الدكتور احمد الطيب في أبو ظبي عام 2019) وتنسجم مع قول الإمام علي بن أبي طالب: “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق” ومع عبارة آية الله العظمى السيد علي السيستاني في زيارة البابا فرنسيس للعراق (5-8 اذار 2021): “نحن جزء منكم وانتم جزء منا“، ومع قاعدة “الدين لله والوطن للجميع” مما يوحّد البشرية ويوطّد الوحدة الوطنية.
يتعيَّن على المسلمين أن تكون الآية التالية حاضرة في فكرهم: “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ” (الكافرون 6)، أي إهتموا بدينكم واتركوا الآخرين يهتمون بدينهم.
هذا هو الاتجاه الصحيح الذي ينبغي اشاعته
وليس ما يروّجه الدعاة المتشدّدون
الذين يشحنون عقول الناس بتفاسيرهم
ومنهم من يكفّر الطائفة الأخرى من المسلمين!
_________________________________________________
* البطريرك ساكو حائز على الدكتوراه في علم لاهوت آباء الكنيسة (من روما)، ودكتوراه في تاريخ المسيحية في ما بين النهرين قبل قدوم الإسلام (السوربون باريس)، وماجستير في الفقه الإسلامي (روما) . اعلام البطريركية.