لو كنتِ تعرفين عطاء الله!
المطران المتقاعد رمزي كرمو / اسطنبول
إن عنوان هذا التأمل جاء في سياق حديث يسوع مع المرأة السامرية التي قالت له: “كَيفَ تسأَلُني أَن أَسقِيَكَ وأَنتَ يَهوديٌّ وأنا امرَأَةٌ سامِريَّة؟ أجابَها يسوع: لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ: إسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّاً” (يوحنا 4/ 9 – 10). إن كلام يسوع ، موجَّه اليوم الى كل واحدٍ منّا، لكي يذكّرنا بالعطية الكبرى التي وهبَها لنا يوم عمادنا والتي غالباً ما ننساها. نعم، يوم عمادنا شربنا من الماء الحي الذي جرى من جنب يسوع وهو معلّق على الصليب المقدس (يوحنا 19/ 34). علماً، إن هذا الماء يرمز الى الروح القدس كما جاء في إنجيل يوحنا: “وفي آخِرِ يَومٍ مِنَ العيد، وهُو أَعظَمُ أَيَّامِه، وقَفَ يسوع ورفَعَ صَوتَه قال: إِن عَطِشَ أَحَدٌ فليُقبِلْ إِلَيَّ ومَن آمنَ بي فَلْيَشَربْ كما ورَدَ في الكِتاب: ستَجْري مِن جَوفِه أَنهارٌ مِنَ الماءِ الحَيّ. وأَرادَ بِقَولِه الرُّوحَ الَّذي سيَنالُه المؤمِنونَ بِه” (7/ 37 – 39).
ونحن نعيش في موسم الدنح، الذي إحتفلنا به بعماد يسوع من يوحنا المعمدان، لنشكر، قبل كل شيء، الله أبانا على محبَّته اللامحدودة التي تجلَّت في عطاءه لنا موهبة الروح القدس والتي جعلتنا أبناءه. “أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله: فهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل بل مِنَ اللهِ وُلِدوا” (يوحنا 1/ 12-13). لنتذكر كذلك، بأن عطايا الروح القدس التي اُفيضت علينا يوم عمادنا، حمَّلتنا مسؤولية كبيرة تجاه إخوتنا وأخواتنا وليست امتيازاً يفصلنا عنهم. كل معمَّد هو رسول، عليه تقع مسؤولية تبشير الذين ما زالوا محرومين من نور الإيمان بيسوع المسيح له كل المجد والإكرام والسجود. بهذا المعنى يقول يسوع، موجِّهاً كلامه لنا اليوم: “أَنتُم نورُ العالَم…. فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَاوات” (متى 5/ 13-16).
إن المرأة السامرية، وبعدما أن كشف يسوع أسرار حياتها وقال لها “أنا هو المسيح الذي يكلّمك” تركت جرَّتها وذهبت إلى المدينة لتُخبر الناس عن الحديث الذي دار بينها وبين يسوع، وأصبحت سبباً في أن يؤمن كثير من السامريين بالمسيح مخلص العالم، وهكذا أصبحت هذه المرأة رسولة ومبشرة. “فآمَنَ بِه عَدَدٌ كَثيرٌ مِن سامِريِّي تِلكَ المَدينَة عن كَلامِ المَرأَةِ الَّتي كانَت تَشهَدُ فتَقول: إِنَّه قالَ لي كُلَّ ما فَعَلتُ” (يوحنا 4/ 39).
إن نسيان عطاء الله وعدم تفعيله في حياتنا يعتبر خطيئة كبيرة، إنها خطيئة الإهمال والكسل. لنسمع ونتأمل في ما قاله يسوع للخادم الشرير الذي لم يستثمر وزنة سيّده: “أَيُّها الخادِمُ الشِّرِّيرُ الكَسْلانُ! عَرَفتَني أَحصُدُ مِن حَيثُ لم أَزرَعْ، وأَجمَعُ مِن حَيثُ لَم أُوزِّعْ، فكانَ عَليكَ أَن تَضَعَ مالي عندَ أَصْحابِ المَصارِف، وكُنتُ في عَودَتي أَستَرِدُّ مالي معَ الفائِدَة… وذلكَ الخادِمُ الَّذي لا خَيرَ فيه، أَلقُوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان” (متى 25/ 26-30). إننا لسنا مسيحيين لأنفسنا فقط، بل كلنا مرسلين لنبشر بالمسيح الذي مات وقام.
لنسمع ما يقوله المجمع الفاتيكاني الثاني في رسالته الى العلمانيين: “إن واجب العلمانيين وحقّهم على أن يكونوا رسلاً ينبعان من إتحادهم بالذات بالمسيح الذي هو الرأس. فإنهم قد إندمجوا بالمعمودية في جسد المسيح السرّي، وتقوَّوا بالتثبيت بقدرة الروح القدس، فالرب نفسه ينتدبهم للرسالة. ولئن كانوا قد كرسوا كهنوتاً ملوكياً وأمة مقدسة (1 بطرس 2/ 4-10)، فإنما ليحولوا جميع أعمالهم قرابين روحية، ويشهدوا للمسيح في الأرض كلها (رسالة العلمانيين، الفصل الأول، رقم 3).
لقد أعلن البابا فرنسيس، سنة 2025، سنة يوبيل تحت عنوان سنة الرجاء. لنستفيد من بركات هذه السنة المقدسة، ونفحص حياتنا فحصاً دقيقاً على ضوء تعاليم الأنجيل المقدس، ونرى مدى المسافة التي تفصلنا عنها وأين نحن من تطبيقها في حياتنا؟ إن سنة الرجاء تدعونا إلى أن نجدد رجاءنا بالروح القدس الذي أغنانا بعطاياه يوم عمادنا المقدس، ونقصد قصداً ثابتاً أن نكون أمينين على وديعة الإيمان التي سلّمها لنا، وذلك لكي نستثمرها في حياتنا ونُغني بها كل الذين لم يحصلوا عليها. كذلك، لتكن سنة اليوبيل، سنة توبة حقيقية نابعة من القلب والأعماق، لكي نختبر فرح العودة الى الله أبينا الذي تفوق مراحمه كل خطايانا وآثامنا، مجددين إيماننا المطلق بمحبته التي لا توصف والتي تجلَّت وتجسَّدت في حياة ربنا والهنا يسوع المسيح. كذلك لنطلب من اُمنا العذراء مريم، أيقونة الرجاء، أن ترافقنا طيلة هذه السنة بصلاتها المستجابة لكي نتعلم منها الإصغاء الى كلام الله وحفظه في قلبنا لكي نغذي به حياتنا اليومية.
أرجو من الذين يقرأون هذه الأسطر، أن يصلّوا من أجلي كي اعيش ما تبقى لي من الحياة الأرضية بالإيمان والرجاء والمحبة وشهادة الحياة حتى النهاية. مع الشكر
ولنبق متحدين بالصلاة، رباط المحبة الذي لا ينقطع
17 كانون الثاني 2025