الدنح: الرجاء الذي ينفتح على الناس
الكاردينال فيرناندو فيلوني
ترجمة: لؤي كليانا
“إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ” (متى2: 1)
بنظرة ثاقبة ومعرفة مثيرة للإعجاب، أو ربما من خلال إطلاع متيقن، بالحقائق التاريخية والجغرافية لبداية حياة الرب، يتحدث مؤلف أول الأناجيل الأربعة القانونية، متى، عن أحد أكثر الأحداث إثارة للاهتمام المرتبطة بـ ميلاد يسوع. في حقيقة الأمر، يبدو الإنجيلي بهذه الطريقة وكأنه يفتح خطًا لسرد لاهوتي جديد ذو أهمية جوهرية: فإن كان الخط الأول يتعلق بـ “المنتظر” في سلسلة نسب البطريرك إبراهيم والملك داود (انظر متى 1، 1-2)، ) بحسب الرؤية التي رسمها النبي إشعياء “هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً” (أش7، 14)، فإن الخط الثاني يتشكل من خلال إسناد معنى الاسم: فيدعى عمانوئيل، أي الله معنا. (راجع إش 7: 14 ومتى 1: 23). فتعبير (الله معنا)، يشمل بالتالي جميع الناس.
في الخط الثاني من السرد اللاهوتي الذي يلخصه الفصل الثاني من إنجيل متى ويتناول زيارة المجوس والأحداث المرتبطة بها: ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في زمن الملك هيرودس إذا مجوس من المشرق قد وصلوا إلى أورشليم قائلين: «أين هو المولود ملك اليهود» (راجع متى 2، 1-2) بهذه الطريقة، في الطفل يسوع لم تتحقق توقعات إسرائيل فحسب، بل أيضًا توقعات الأمم.
إن التاريخ كله، وكل حياة إنسانية، هي في حد ذاتها انتظارٌ ورحلة. بل أكثر من ذلك، وهذا يظهر من خلال التاريخ الذي يصبح مقدسًا من خلال إدخال “العلي” فيه؛ تاريخٌ عظيم من “الانتظار” و”الرحلات”، بدءًا من إبراهيم الذي انتقل من أور الكلدانيين نحو الأرض التي أشار إليها الله، إلى ذلك الشعب الذي سافر عبر الصحراء على هدى عمود النار. الطريق نحو أرض الآباء؛ وما بعد ذلك. في كل رحلة كتابية، لا تغيب البركة أبدًا كرفيق: ” ليباركك الرب ويحفظك ويمنحك السلام ” (راجع عدد 6: 23). إنها بركة، كما علمنا القديس بولس، تمتد في يسوع المسيح إلى جميع الشعوب، وفي الوقت نفسه تجلب الفداء ومغفرة الخطايا ووفرة من النعمة (أنظر أفسس 1: 1-7)
بحسب الكتاب المقدس، فإن جميع الناس، إذن، ينتظرون ويتحركون، لأن الحج (الحقيقي، والفكري، والوجودي) ينتمي إلى الحالة البشرية: لا إلى الملائكة ولا إلى الشياطين.
والمسيح نفسه من خلال التجسد يصبح حاجّاً.
إن الشخصيات الغامضة التي جاءت من الشرق والتي يتحدث عنها إنجيل متى، تمثل هؤلاء الناس الذين يتبعون نجمًا بحسب توقعاتهم (راجع متى 2، 2)، يبحثون عن مرشد: يبحثون عن ذلك الرجاء الذي يحمل معنى وشكل للوجود لدى كل إنسان.
في إطار مثير للذكريات، تنبأ مؤلف المزمور 72(71) بحركة مركزية وغير عادية للشعب نحو “الملك العظيم”: ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة. ملوك شبا وسبإ يقدمون هدية ويسجد له كل الملوك . كل الأمم تتعبد له (راجع 9: 11). إنها رؤية رائعة بالتأكيد، يتبعها سيناريو جديد، وهو رسالة الكنيسة التي تنطلق من الرب القائم وتتجه نحو الشعب: المسيح، البركة التي يجب أن تُفيض على جميع الشعوب. المبشر هو الذي يحوّل رجاء الناس وتوقعاتهم إلى “بركة” بالذهاب نحو الذين يبحثون عن الله في المسيح.
عيد الدنح: هو العيد الذي فيه تتجلي بشرية يسوع للمجوس. ولكننا سنعرف أيضًا تجليات أخرى خلال الحياة العامة للمسيح: من معموديته في الأردن “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (متى 3: 17)، وفي التجلي على جبل طابور “هذا هو ابني الحبيب” (متى 17، 5)؛ وفي صلب يسوع “حقا كان هذا ابن الله!” (متى 27، 54)، إلى قيامته التي تختتم الخط التاريخي اللاهوتي الأخير من ظهورات الرب.
كتب الباب بنديكتوس السادس عشر ” إننا في الرجاء خلصنا” (رومية 8: 24) وأضاف: “إن الفداء يُعرض علينا بمعنى أننا قد أُعطينا الرجاء، الرجاء الموثوق به، الذي بفضله نستطيع أن نواجه حاضرنا: “إن الحاضر، حتى وإن كان متعبًا، يمكن أن نعيشه ونقبله إن كان يقودنا نحو الهدف وإن كنا على يقين من هذا الهدف، وإذا كان هذا الهدف عظيمًا إلى الحد الذي يبرر جهد الرحلة” (الرسالة العامة خُلِصنا بالرجاء، عدد1).
وكرر البابا فرنسيس: “الرجاء الذي لا يخيب” (روم 5، 5)، لأن ” في قلب كل إنسان يوجد الرجاء كرغبة وتوقع للخير، حتى من دون أن نعرف ما سيحمله لنا الغد معه”. عدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل يؤدي في بعض الأحيان يثير فينا مشاعر متناقضة: من الثقة إلى الخوف، ومن السكينة إلى اليأس، ومن اليقين إلى الشك. في كثير من الأحيان نلتقي بأشخاص محبطين ينظرون إلى المستقبل بتشكك وتشاؤم، وكأن لا شيء يمكن أن يمنحهم السعادة. أتمنى أن يكون اليوبيل فرصة للجميع لتجديد الرجاء. ولتساعدنا كلمة الله على إيجاد أسباب للرجاء ” (مرسوم السنة المقدسة 2025، رقم 1).
الكاردينال فيرناندو فيلوني – كبير فرسان القبر المقدس
02 كانون الثاني 2025