من مِذوَد بيت لحم الى صليب الجلجلة
المطران المتقاعد رمزي كرمو
اسطنبول 7 كانون الأول 2024
إن يسوع الذي ولِدَ في بيتِ لحم من مريم العذراء هو نفسه الذي صُلِبَ على صليب الجلجلة بحضور مريم العذراء. هذا يعني أن هناك علاقة وثيقة وعميقة بين سرّ التجسُّد (ميلاد يسوع) وسرّ الفداء (موت يسوع).
حينما نقرأ بتعمُّق، بعض نصوص الكتاب المقدس التي تتحدث عن حياة يسوع وهو في سنّ الطفولة، نجد فيها علامات كثيرة تشيرُ إلى آلامِه وموتِه. يذكر متَّى في إنجيله، رواية قدوم المجوس وسجودهم ليسوع، كيف كانت السبب في أن يقرر هيرودس الملك قتل أطفال بيت لحم ظاناً أنه سوف يقتل معهم يسوع الطفل الذي هرَبَ بعناية الهية مع والديه مريم ويوسف الى مصر، كذلك نقرأ في نفسِ الرواية بأن المجوس قدَّموا ليسوع الطفل هدايا وهي عبارة عن ذهب وبَخور ومُرّ، الذهب رمزاً لملوكيته والبَخور رمزاً لألوهيته والمُرّ، الذي كان يستعمل لتحنيط الأموات، رمزاً لموتِه (متى 2/ 1 – 18).
أما لوقا فيتكلم في إنجيلِه عن خِتان يسوع في اليوم الثامن بعد ولادته، وما الدم الذي سال منه أثناء عملية الختان سوى إشارة الى الدم الذي سوف يجري من جَنبِه المقدس على صليبِ الجلجلة. كذلك يَسرد لنا لوقا رواية تقدمة يسوع الى الهيكل وله من العمر أربعين يوماً، وكيف أشارَ سمعان البارّ الذي حمله على يديه، الى موتِه حينما قال لمريم: “ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض. وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة” (2/ 34 – 35). إن نبوءَة سمعان هي إشارة الى الآلام التي سوف يتحملها يسوع على صليب الجلجلة في نهاية حياته الأرضية من أجل خلاص البشرية. أما حادثة فُقدان يسوع في الهيكل ووجَدانه في اليوم الثالث وهو ابن اثنتي عشرة سنة فهي الأخرى تشير إلى فقدانه ثلاثة أيام في القبر بعد موته على صليب الجلجلة “فلَمَّا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة، صَعِدوا إِلَيها جَرْياً على السُّنَّةِ في العيد. فَلَمَّا انقَضَت أَيَّامُ العيدِ ورَجَعا، بَقيَ الصَّبيُّ يسوعُ في أُورَشَليم، مِن غَيِر أَن يَعلَمَ أَبَواه. وكانا يَظُنَّانِ أَنَّه في القافِلة، فَسارا مَسيرَةَ يَومٍ، ثُمَّ أَخذا يَبحَثانِ عَنهُ عِندَ الأَقارِبِ والـمَعارِف. فلَمَّا لَم يَجداه، رَجَعا إِلى أُورَشَليمَ يَبحَثانِ عنه. فَوجداهُ بَعدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في الـهَيكَل” (لوقا 2/ 42 – 46).
هنالك أيضاً بعض الأيقونات التي تصوِّر لنا يسوع الطفل وهو في المِذوَد، ملفوفاً بالكَفَن مشيرةً بذلك الى الموت الذي ينتظره على صليب الجلجلة.
نستنتج من قراءة هذه الآيات والتأمل فيها بتمَعُّن وتَعمُّق، بأن سرّ التجسد وسرّ الفداء، الذين اكتَملا بولادة وموت وقيامة ربّنا والهنا يسوع المسيح، له كل الإكرام والمجد والسجود، كانا ضروريين لخلاص البشرية من الخطيئة والموت الأبدي. من خلال هذين السرَّين أظهرَ الله حبّه اللامتناهي لنا كما يشهد على ذلك أنجيل يوحنا، حيث نقرأ:
“فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم” (يوحنا 3/ 16 – 17). نعم، إن المحبة التي أظهرها لنا الله بتجسد إبنه الحبيب، بلغت ذروتها بموته على صليب الجلجلة. “لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه” (يوحنا 15/ 13).
إن زمن البشارة الذي به تبدأ سنتنا الطقسية، يدعونا الى أن نحتفل بعيد الميلاد إحتفالاً روحياً مسيحياً وليس إحتفالاً دنيوياً سطحياً. إن الاحتفال الروحي والمسيحي بعيد الميلاد المبارك هو، ذلك الاحتفال الذي يجعلنا ننظر الى طفل مذود بيت لحم باندهاش وانبهار لا مثيل لهما، يعكسان فرحنا العميق بميلاد المخلّص الذي هو المسيح الرب.
“وكانَ في تِلكَ النَّاحِيَةِ رُعاةٌ يَبيتونَ في البَرِّيَّة، يَتناوَبونَ السَّهَرَ في اللَّيلِ على رَعِيَّتِهم. فحَضَرَهم مَلاكُ الرَّبِّ وأَشرَقَ مَجدُ الرَّبِّ حَولَهم، فخافوا خَوفاً شَديداً. فقالَ لَهمُ الـمَلاك: لا تَخافوا، ها إِنِّي أُبَشِّرُكُم بِفَرحٍ عَظيمٍ يَكونُ فَرحَ الشَّعبِ كُلِّه: وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ” (لوقا 2/ 9 – 11). هكذا نظرة على طفلِ المغارة، هي نعمة يجب أن نطلبها بالصلاة من الروح القدس، الذي من دونه لا أحد يستطيع ان يعترف ويقول أن: “يسوعَ هو المسيح الربّ” (1 قورنتس 12/ 3).
كذلك إن الاحتفال الروحي والمسيحي بعيد الميلاد يدعونا إلى أن ننظر الى اُمّنا العذراء مريم القديسة، التي لعبت دوراً متميزاً واستثنائياً في ميلاد المسيح المُخلّص، أي “الكلمة الذي صار جسداً وحلَّ فينا” (يوحنا 1/ 14). إنها حواء الجديدة، كما يدعوها بعض آباء كنيسة المشرق، التي أطاعت كلام الله، الذي نقله إليها الملاك جبرائيل، ووهبَت لنا الحياة، بعكس حواء القديمة التي عصَت كلام الله ووهبَت لنا الموت. إنها العذراء المؤمنة التي كانت تسمع كلام الله وتحفظه في قلبها وتتغذى به.
إنها تلك الأم الحنونة التي أحاطَت طفلها العجيب والمدهش بمحبَّتها وحنانِها منذ ولادته في مِذوَد بيت لحم. إنها أيضاً تلك التلميذة التي تبعت المعلم حتى النهاية كي تشاركه آلامه وموته على صليب الجلجلة لتكون الشاهدة الموثوق بها على قيامته الممجّدة. كذلك إنها تلك المرأة التي اعطاها يسوع لتكون اُمّاً لنا. “فرأَى يسوعُ أُمَّه وإِلى جانِبِها التِّلميذُ الحَبيبُ إِلَيه. فقالَ لأُمِّه: أيَّتُها المَرأَة، هذا ابنُكِ. ثمَّ قالَ لِلتِّلميذ: هذه أُمُّكَ. ومُنذُ تِلكَ السَّاعةِ استَقبَلَها التِّلميذُ في بَيتِه” (يوحنا 19/ 26 – 27).
لنتعلَّم من هذه الأُم المتواضعة والنقية أن نستعد نحن أيضاً للأحتفال بعيد مخلِّصنا يسوع المسيح بالتوبة وبقلبٍ متواضعٍ ونقيّ كي نختبر فرح حضوره الحقيقي فينا. إنه عمانوئيل، الله معنا.
أرجو من كافة الذين يقرأون هذه الأسطر أن يُصلّوا من أجلي كي أعيش ما تبقى لي من الحياة الزمنية بالإيمان والرجاء والمحبة وشهادة الحياة. مع الشكر
ولنبق متحدين بالصلاة