البابا بندكتس السادس عشر والرئيس الايطالي جورجيو نابوليتانو
في ذاكرة وكيل سكرتارية الدولة بالفاتيكان آنذاك
(الاحترام والتعاون في خدمة الخير الشامل)
بقلم نيافة الكاردينال فيرناندو فيلوني
ترجمة المطران باسيليوس يلدو
العلاقة بين البابا بندكتس السادس عشر والرئيس الإيطالي جورجيو نابوليتانو كانت محور الخطاب الذي ألقاه الكاردينال فيرناندو فيلوني، رئيس فرسان القبر المقدس لكنيسة القيامة في القدس، من خلال المحادثة التي جرت يوم الأربعاء 20 تشرين الثاني/نوفمبر في السفارة الإيطالية لدى الكرسي الرسولي وكانت بعنوان: “اتفاقية فيلا مداما في العلاقات بين الباباوات ورؤساء الجمهورية (1984 – 2024)”. ومن خلال ملاحظاته في سكرتارية الدولة والتي كان آنذاك وكيلها، أكد الكاردينال فيلوني أنه خلال سنوات ولايتهما، اكتشف الحبر الأعظم والرئيس الايطالي أوجه التشابه، والاحترام ونمو الشعور العميق بالثقة بينهما. ننشر مقتطفات هذا الخطاب.
البابا بندكتس السادس عشر، الذي جاء من بافيرا عام 1981، كان قد اندمج في الواقع الروماني والإيطالي المعقد؛ كرجل للكنيسة ثم البابا، كانت لديه رؤية واضحة ومفصلة للإيمان كحدث مسيحي وعقلاني. كان الواقع الاجتماعي والسياسي الإيطالي، مع علمانيته المكتسبة بشكل خاص في فترة ما بعد المجمع الفاتيكاني، يمثل بالنسبة له مجالًا للمراقبة والدراسة: في الممارسة المعقدة للعلاقات بين الأطراف المختلفة والمتعارضة، كان الاستماع إلى كليهما واجب مقدس، اختلاف الآراء واحترام الآخر، معايير لا غنى عنها لتجنب الوقوع في الجدل العقيم والتعصب غير المقبول.
تمت حبرية البابا بندكتس السادس عشر، بالمعنى الزمني، بين الأشهر الأخيرة من رئاسة الرئيس الايطالي كارلو أزيليو شامبي (18 ايار 1999 – 15 ايار 2006) ورئاسة الرئيس جورجيو نابوليتانو (15 ايار 2006 – 14 كانون الثاني 2015)؛ كانت تربطه علاقات احترام عميق، تمثل العلاقة الأعلى والأكثر احترامًا بين الحبر الروماني وأعلى مؤسسة في الجمهورية الإيطالية. لقد اكتشفوا التقارب بينهم، وزرعوا الاحترام والشعور بالثقة.
في العشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2006، أي بعد بضعة أشهر من انتخابه كرئيس، وفي توقيت وحساسية كبيرين، زار الرئيس نابوليتانو الفاتيكان؛ لقد كان اللقاء مع بندكتس السادس عشر بداية العلاقة الجميلة بين الشخصيتين الأعلى في الكنيسة الكاثوليكية والشعب الإيطالي؛ وفي 4 أكتوبر 2008، عاد بندكتس السادس عشر لرد الزيارة بالذهاب إلى قصر كويرينالي؛ وقال: “إنه لمن دواعي سروري أن أعبر عتبة هذا القصر مرة أخرى […] أدخل مقر إقامتك الرسمي، سيادة الرئيس، المكان الرمزي لجميع الإيطاليين، مع الامتنان العميق للزيارة الطيبة التي قمت بها لي في تشرين الثاني 2006 في الفاتيكان، مباشرة بعد انتخابكم للهيئة القضائية العليا للجمهورية الإيطالية”.
يجب أن أقول، برأيي المتواضع، أنه بالإضافة إلى الصداقة بين رئيسي الدولتين، فقد نشأ تقارب فكري غير عادي بين البابا وبين الرئيس نابوليتانو؛ هو الصدق الفكري، موضوع الإنسان المعقد، الذي كان في قلب نشاطهم الطويل في التعليم اللاهوتي والحياة الرعوية لأحدهم، والهدف السياسي ومحبة الحرية للآخر، في سياق تلك الحرية الأخلاقية وهذا أمر محترم وفي نفس الوقت ديني وعلماني. رأى نابوليتانو في بندكتس السادس عشر رجلاً ذا قيم مسيحية عظيمة معبرًا عنها في خلاصة حديثة وأصيلة وهذا ما أثار اهتمامه بشدة؛ كان بندكتس السادس عشر يعلم جيدًا أن شخصًا عاديًا مستنيرًا، مثل الرئيس نابوليتانو، سيكون رفيقًا جيدًا له خلال الرحلة التي جمعتهما فيها العناية الإلهية والتاريخ.
وما وحدهم أيضاً، على الرغم من وجود نقاط وتجارب مختلفة بينهما، ولكن ليست متضاربة، كان الحساسية العميقة والتفكير الواضح في مستقبل دول الاتحاد الأوروبي؛ ولهذا السبب، كانت المبادرة التي بدأت رمزية للغاية للجميع، هي الهدية المقدمة إلى الحبر الأعظم، بمناسبة زيارة البابا المذكورة آنفًا إلى كويرينالي، وهي إعادة طبعة “أوروبا”، من مكتبة الفاتيكان الرسولية. في مقدمة الطبعة الثمينة، كتب الرئيس نابوليتانو أنه رأى «توازيًا ضمنيًا بين شخصية الرجل الإيطالي العظيم، إينا سيلفيو بيكولوميني، الذي كان من حسن حظه أن يعيش ويعرف ألمانيا بعمق، مع رجل الثقافة الألماني العظيم، جوزيف راتسينجر، الذي عاش أكثر من ثلاثين عامًا في إيطاليا وأصبح بابا باسم بندكتس السادس عشر.
الاثنين كانا يتشاركان شغفًا بالثقافة، وخاصة الموسيقى الجيدة، لدرجة أن الرئيس نابوليتانو أراد في عدة مناسبات أن يقدم لبندكتس السادس عشر حفلات موسيقية ذات قيمة عالية في صالة نيرفي. يضاف إلى ذلك الحفل الموسيقي الذي نظمته السفارة الإيطالية لدى الكرسي الرسولي في 5 شباط 2013 تكريماً للأب الأقدس والرئيس نابوليتانو. يبدو هذا الحدث اليوم وكأنه كان وداع تقريبًا: «في هذه السنوات السبع – قال البابا الذي سيعلن في 11 شباط 2013 أنه سيتخلى عن الخدمة البطرسية – التقينا عدة مرات وتبادلنا الخبرات والأفكار». وختم: «سأصلي من أجل إيطاليا».
كان نابوليتانو قد علم للتو شخصياً من الحبر الأعظم أنه على وشك التنازل عن العرش البابوي، لكنه، كما أخبر معاونيه لاحقاً، لم يفهم أن التنازل سيكون فورياً لهذا الحد. لقد تأثر وأعجب به.
كان لدى بندكتس السادس عشر التزام تجاه المؤسسات الإيطالية ليس بالمجاملة الرسمية أو العلاقة الرمزية، بل بالاحترام والاهتمام العميقين؛ تلك الأماكن التي تستذكر الاحداث السعيدة والحزينة من تاريخ البابوية، وتعزيز الفن والثقافة. أود هنا أن أروي حادثة هامة تتعلق باللحظة الدرامية التي شهدتها إيطاليا، والتي عبر فيها البابا بندكتس السادس عشر عن مشاعره، بتكتم مطلق ووضوح تام. في عام 2010، كان البابا في زيارة رعوية إلى باليرمو (3 أكتوبر)؛ سافرنا على طول الطريق السريع الذي يؤدي من المطار إلى المدينة؛ لقد مررنا عبر كاباسي، النقطة التي قُتل فيها القاضي فالكوني على يد المافيا مع زوجته ومرافقتها. تحدثت إلى البابا وسألته عما إذا كان يعتقد أنه من المناسب التوقف للصلاة الصامتة القصيرة في طريق العودة. فوافق تماماً: أحضرنا باقة من الزهور البيضاء، ثم نزل الحبر الأعظم من السيارة وأمام الحجر التذكاري للمجزرة، صلى في صمت ووضع الزهور؛ حدث لم يلاحظه أحد تقريبًا من قبل وسائل الإعلام، ولكنه كان ذا أهمية كبيرة بالنسبة لبندكتس السادس عشر ومؤثر بعمق أيضًا بالنسبة لي، أنا الذي شهدت اهتمامه الكبير.
هذا البابا كان يهتم بتاريخ إيطاليا، ولذلك لم يتجاهل ذكر “المسألة الرومانية” على سبيل المثال، ليؤكد من جديد أنها قد تمت تسويتها بطريقة “نهائية” و “لا رجعة فيها” مع اتفاقيات لاتران في (11 شباط 1929)، والتي أصبحت شعارًا لسيادتين محترمتين بشكل متبادل ومستعدتين للتعاون وخدمة الخير الشامل للإنسان والتعايش المدني: هذه المفاهيم أراد بندكتس السادس عشر تقديمها في الرسالة الموجهة إلى رئيس الجمهورية الإيطالية بمناسبة مرور 150 عاما على الوحدة السياسية لإيطاليا.
يبدو لي أن الرئيس نابوليتانو وبندكتس السادس عشر عاشا حياتهما (القرن العشرين) إلى أقصى حد، وقد عبراه في وقت واحد مع مآسيه ومعاناته وفتوحاته؛ ولذلك كانت هناك درجة من التقارب بينهما، حتى لو عاش كل منهما ذلك القرن إما في ضوء إيمان واضح، أو في ضوء رؤية سياسية مدروسة مليئة بالإنسانية. لقد أعجب بندكتس السادس عشر بالرئيس نابوليتانو على وجه التحديد لاستقامته وذكائه السياسي، وإحساسه بالتوازن والاحترام الكبير الذي يكنه ليس فقط لمؤسسات الجمهورية، ولكن أيضًا للكنيسة. وإذا جاز لي أن ألتزم السرية، فقد كنت أشعر أيضاً بأنني رجل عادل ومتماسك فكرياً خلال ولاية الرئيس نابوليتانو. وفي نهاية ولايته، أردت أن أرسل له ملاحظة بسيطة: “شكرًا لك، سيادة الرئيس”.
في فناء افتراضي، أين كان يمكن للبابا بندكتس السادس عشر ان يجتمع بالرئيس نابوليتانو؟ ربما أمام باب الهيكل، ربما حرص على إلقاء نظرة خاطفة عليه والاستماع له والاستفهام منه عما يتماشى مع موقف العلماني المحترم في غرفة الإيمان، والذي ابهر الرئيس وانجذب للثقافة العالية، خاصة في الشهادة التي قدمها بندكتس السادس عشر. ومن هذا الهيكل، الكنيسة، كان البابا راتسينجر هو الوصي اليقظ على الكنيسة حتى 28 شباط 2013، عندما اختار، ان يكون مثل وميض نجم تاريخي يخترق السماء من الشرق إلى الغرب، وينزل من عرش بطرس.
بمجرد أن أصبحا فخريين، بندكت السادس عشر (في 28 شباط 2013) والرئيس نابوليتانو (في 14 كانون الثاني 2015)، أتيحت الفرصة للقاء على انفراد في دير intra moenia vaticana حيث مكان تقاعد البابا جوزيف راتسينغر. وفي الغرفة الصغيرة في الطابق الأول حيث كان يستقبل زواره وضيوفه المرحبين، التقى جوزيف راتسينغر، اللاهوتي الذي تحدث عن الله بشكل لم يسبق له مثيل في القرون الأخيرة، بصديقه جورجيو نابوليتانو، وهو صديق مخلص مهتم بالخطاب الروحي؛ ونود أن نعتقد أن الاثنين، بعد عبورهما القرن العشرين، كانا يستعدان للأبدية، “مسترشدين بنور النجم نفسه”. (جريدة أفينييري، 6 اب 2023).