كنائسنا المشرقية والهواجس الوحدوية
نوئيل فرمان السناطي – كالكري، كندا
بعيدا عن التنظيرات والاكليروسانية، علمني مؤمنونا المشرقيون في بلاد الانتشار، بلاد الغربة، كيف نعيش وحدتنا المسكونية. سواء كانوا من كنائسنا الشرقية كاثوليكية أو من الكنائس الرسولية غير الكاثوليكية. وعندما كنت اتساءل هل يمكن، قانونا، ان ينضم هذا او ذاك إلى عدد من انشطتنا الكنسية الرسمية، كانت الاصداء تجيبني، من الداخل ومن المحيط، بالجدية القانونية عينها وبنفس التفلسف…
بدايات تأسيس رعية في مدينة متعددة الاتجاهات الكنسية
عندما كانت بدايات التأسيس، في كالكري، لرعية جلّها من الكلدان إلى جانب ألوان أخرى من الانتماءات الكنسية، ممن تعايشوا وتصاهروا بألفة طيبة لعقود خلت. وكان من الطبيعي إطلاق التسمية كلدانية على الرعية، والتنويه بهذا الاسم بنحو تلقائي، في مناسبة الانطلاق. ولكن لمواجهة أي تحسس تسموي محتمل في مجمتع من الخلفيات الكنسية المشرقية الأخرى، كان الحبر المؤسس، الزائر الرسولي، مستعدا للمعالجة المسبقة. فللتأكيد بأن الرعية في هذه المدينة وخلوًا من كاهن آخر، هي رعية في خدمة الجميع بادر طيب الذكر مار ابراهيم ابراهيم ، وبروح مسكونية، إلى زيارة عوائل من كنائس أخرى زيارة محبة راعوية. مما ألقى بظلاله الايجابية، على موزائيك الانحدارات التسموية، فكان الكل يجمتعون تحت رعاية الام العذراء ويتلقون الاسرار، من عماذ وتناول وتحضير للزواج. وامتد هذا الانطباع لدى الاحبار الزائرين او المنسبين إلى الابرشية أو من كنائسنا الشرقية، مع قيام رعيات أخرى من الكنائس الشقيقة.
الزيارات المتبادلة
ولا تفوت الاشارة، والحق يقال، إلى أن المبادرة السباقة كانت تأتي من جانبنا، ومن الجانب الاخر التلقي والاستقبال المحترم. هذا ما عشناه في المشاركة بتشييع مثلث الرحمة مار دنحا الرابع (1935-26 مارس 2015)، مع ابقاء المسافة من جانبهم على الاستقبال الكنسي فحسب.
وبقيت الزيارات متبادلة ومتفاعلة في الحضور بين الكنائس. ولأسباب لعلها تتعلق بخصوصية العلاقات بين الكنائس الرسولية الارثوذكسية في مصر مع غيرها من الكنائس، كان ثمة، وإلى جانب الود والاحترام الاخوي، الحرص بشأن ابقاء مسافة ما، من قبل رعاة تلك الخورنات وكنا نقدّره باحترام ونسعى إلى أن نفهم مبرراته الادارية فيما يخصهم.
عودة إلى جذور التسعينات
وللخوض في هذا الموضوع، تعود بي الذاكرة إلى التسعينات، خلال سنوات خدمتي في مجلة الفكر المسيحي. ذلك أنه بشأن العلاقة ما بين الكنيستين التوأمين، الكلدانية والاشورية، ولاسباب محيرة غامضة، يبدو للمرء انه لم يتم الاحتفاء بما فيه الكفاية وأحيانا على الاطلاق بالإعلان الكريستولوجي (الاتفاق حول لاهوت المسيح) ورفع الحرم بين الكاثوليك وكنيسة المشرق الاشورية في 11 تشرين ثاني 1994 هذا الاعلان الذي وقعه البابا يوحنا بولس الثاني ومار حنانيشوع دنحا الرابع، وبهذا الصدد،ثمة جملة مؤشرات.
الفاتيكان والكنائس المشرقية الكاثوليكية
يرى المراقبون انه كان ثمة تهميش ملفت للنظر من قبل الفاتيكان، بشأن الحضور البطريركي للكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، ككنيسة شقيقة لكنيسة المشرق الاشورية، في لقاء مفصلي مثل ذلك اللقاء التاريخي. وكأن الكنيسة الكلدانية ليست جزءا لصيقا بوحدة وشركة تامة مع الكنيسة اللاتينية الكاثوليكية؛ فتكون في الأقل طرفا حاضرا في إطار هذا الاعلان العقائدي التاريخي الشافي الغليل بشأن غياب أي حرم أو اختلاف عقائدي، في الايمان بشخص المسيح كلمة الله المتجسد. إذ أكد الاعلان على تفهم مفردات كل طرف لمفردات الطرق الآخر. وكان غياب الكنيسة الكلدانية في ذلك اللقاء يشي بمذاق مرارة ما، إذ يقال أنه في غضون تلك اللقاءات، كان البطريرك الراحل مار روفائيل بيداويد متواجدا في روما، أو في مراجعة مع إحدى دوائر الفاتيكان…
تسمية كنيسة المشرق
إضافة إلى ذلك، وفي المقابل، فقد بقي ثمة، من الطرف الآخر أيضا، نظرة قلما تركز على تشجيع التآلف الوحدوي. ففي تلك المرحلة، وفي اجواء الانفتاح والخط المسكوني الذي عاشته مجلة الفكر المسيحي الغرّاء، كنت قد كتبت مقالا في باب “اضواء على الاحداث” بتوقيع مشترك مع الصديق الناشط الاشوري رابي موشي داود اوراهم، تحت عنوان: مخاض الوحدة بين كنيستي المشرق الكلدانية والاشورية. وتوفر لي أن اعرضه، بنحو لا يخلو من الحماس الشبابي، على أسقف بكنيسة المشرق الآشورية. وبما كان يعرفه لديّ من قرب ودالة تجاهه قال لي بابتسامة واحترام: نعم.. ولكن لدى التحفظ بشأن العنوان.. اقصد بالتحفّظ عن تسمية كنيسة المشرق.. فنحن كنيسة المشرق الاشورية، أما التسمية بشأنكم فهي “الكنيسة الكلدانية فحسب”.
تبريرات الكاردينال روجيه اتشيغاراي
أزاء هذه التجاذبات، مضافا إليها موقف الفاتيكان من الكلدان أمام الإعلان الكريستولوجي، واجهت حماستي آنذاك تساؤلات بريئة لحد السذاجة، تساؤلات بقيت حائرة، حتى وجدت الاجابة عنها، بالمصادفة البحتة في موضوع آخر لا يتعلق بالعلاقة بين الكنيستين الشقيقتين:
كان ذلك عندما دوت في نهاية التسعينات ما سمي بصرخة مطران بعلبك، عما وصف بالبيروقراطية الفاتيكانية، تجاه الكنائس المنضوية إلى الكرسي الرسولي. فقد سُئِل عن رأيه في تلك الصرخة، الكاردينال الفرنسي روجيه اتشيغاراي (1922-2017) رئيس المجلس الحبري “عدالة وسلام” ، ثم رئيس المجلس الحبري “قلب واحد” (1984- 1995). وكان معروفا بأسلوبه الضاحك وقفشاته المباشرة. فجاءت إجابته الموضحة والصادمة: متى ما حصل اتفاق عقائدي ما بين الكرسي الرسولي مع الكنائس غير الكاثوليكية، فإن كنائستها الشقيقة، المرتبطة بالكرسي الرسولي (…se déraperont) ستذهب لحالها…
ولكن على النقيض، بدل أن يكون هذا موقف ضعف لدى الكنيسة الكلدانية، فإنه أصبح وسيلة ضغط على الدوائر الفاتيكانية؛ وذلك أنه لدى احتدام اي شيء بشأن مباحثات عن هذا الأمر أو ذاك. فقد تجمعت لديّ مع السنوات خيوط متبعثرة من اصداء ضغوط جريئة من طرف الكنيسة الكلدانية، تلوّح بمضامينها، أمام حقوق في التعبير والمطالبات: لطفا، ليس لنا فرق عقائدي مع الكنيسة التي منها قدمنا، ويبقى الاحبار خلفاء الرسل، وخليفة بطرس، هو خادم خدام الرب بالمحبة.
مبادرات أسقفية مؤثرة
وكتحصيل حاصل بقيت عموما هذه الشركة العقائدية بين الكنيستين الكلدانية والآشورية، مطمئنة ومصدر ارتياح بين الجانبين. هذا، كما رأى فيه الملاحظون، جعل الكنيستين بتلقائية ان تؤدي من قبل جانبيها تؤدي دور الاواني المستطرقة تجاه أبنائها في حركات النقل وممارسة الشعائر، ضمن العقيدة الإيمانية المشتركة. وهذا ايضا يرتكز على مبادرة هذا الحبر أو ذلك. فإن أنسى لا أنسى، موقفا عندما حضرت قبل سنوات قداسًا لكنيسة المشرق الاشورية في كالكري، مع بداياتها. كنت جالسا في مقدمة الحضور، فنزل نحوي بحلّة القداس، الحبر الذي كان مزمعا للاحتفال، وربت على كتفي، وقال بابتسامة: نحتاجك أن تصعد إلى فوق معنا، لتشارك معنا، ولاسيما وان لاقطات الصوت لا تساعد صوتي الخافت.
ومثل هذا وبتأثر بالغ، اذكره، عن أخٍ آخر في الكهنوت، وبإشارة من اسقفه الأرثوذكسي، نزل إليّ ليقول: كما أنا كاهن فأنت ايضا كاهن، اصعد معنا، واعطاني الاسقف أكثر من دور في المشاركة في القراءات. تبارك الرب المخلص برسله محبي الودة وفرح اجتماع الإخوة معا.
الخدمة الراعوية لمؤمنين يقرأون الممحي
إزاء كل ما سبق ذكره، يبقى مؤشر العلاقات بين الاخوة دعوة نعيشها، بتواضع مع ما في ذلك من محدودية بشرية، أمام إخفاقات او نجاحات في التقارب، ليس فقط ما بين الكنائس الكاثوليكية وغير الكاثوليكية، بل ثمة تحديات تواجه رعاتنا على مستوى العلاقات الكاثوليكية الكاثوليكية خصوصا في بلداننا، علاقات قد تكون مسكونة بنوازع مختلفة.
ومن ثم تبقى قاعدة المؤمنين، الذين يقرأون الممحي، مدرسة للمسار المسكونية للاكليروس ان ينهل منها بحكمة وتميز، طالما لا تكون متأثرة بالنزعة السياسية وبإملاءات الأثرياء والمتنفذين. هذا ما يجدر قوله تجاه مبادرات غير مسبوقة لم ترى النور بسبب حسابات البيدر والحصاد. فإن هذا يرتطم مع ردود أفعال متباينة تجاه هذه المبادرة او تلك، هذا هو الانطباع الذي نحفظه عن مبادرة البطريرك مار لويس ساكو خطواته الوحدوية.
وبعد، إننا في الاغتراب كما في بلداننا الأم بالمشرق، أمام تحدّيات تواجه إيماننا وحاجة أجيالنا إلى الرعاة، والحاجة إلى المزيد من الدعوات. تبقى الحاجة قائمة للخدمة المشتركة ما بين كهنتنا، سواء في خدمة المرضى، او الزيارات الرعوية، او للقاءات الثقافية الاخوية. يضاف إلى كل هذا عامل الثقافة المتلاقحة، بعيدًا عن التشتت وعدم المتابعة. فيفتقد عالمنا المسيحي إلى الدعوات، وثمة الحاجة الماسة لمعالجة قلة الكهنة ما يغني في الافادة المتبادلة من نوعية اعدادهم. وبذلك تتوفر لديهم خدمة افضل للرعايا. وحتى وان كان حاليا في هذه الرعيات كهنة يخدمونها، فإنهم يحتاجون إلى التعاون على خدمتها المشتركة بنحو مسكوني مشرق. ولا سيما وأن كنائس هذا الرعايا، تبقى أبوابها وشبابيكها على مرمى حجر بين الواحدة والاخرى.