فـــــــرح الإيمـــــان
المطران المتقاعد رمزي كرمو
اسطنبول 15 تشرين الثاني 2024
عنوان هذا التأمل عبارة عن كلمتين وهما: الفرح والإيمان، وكلتاهما تَكلَّم عنهما ربّنا والهنا يسوع المسيح في إنجيله المقدس. نقرأ في إنجيل يوحنا، يسوع مخاطِباً تلاميذه قائلاً: “قُلتُ لَكم هذهِ الأشياءَ لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامّاً” (15/ 11)، وهو يخاطب أباه قائلاً: “أَمَّا الآنَ فإِنِّي ذاهِبٌ إِلَيكَ. ولكِنِّي أَقولُ هذه الأَشياءَ وأَنا في العالَم لِيَكونَ فيهِم فَرَحي التَّامّ” (17/ 13).
أما عن الأيمان فنقرأ في أنجيل متى يسوع مخاطباً تلاميذه قائلاً: “الحَقَّ أَقولُ لكم: إِن كانَ لَكم إِيمانٌ ولم تَشُكُّوا، لا تَفعَلونَ ما فَعَلتُ بِالتِّينَةِ فَحَسْبُ، بل كُنتُم إِذا قُلتُم لهذا الجَبل: قُمْ فاهبِطْ في البَحر، يَكونُ ذلك. فَكُلُّ شَيءٍ تَطلُبونَه وَأَنتُم تُصَلُّونَ بِإِيمانٍ تَنالونَه” (21/ 21 – 22). وحينما شفى ابنة المرأة الكنعانية قال لها: “ما أَعظمَ إِيمانَكِ أَيَّتُها المَرأَة، فَلْيَكُنْ لَكِ ما تُريدين، فشُفِيَتِ ابنَتُها في تِلكَ السَّاعة” (15/ 28). وهناك آيات أخرى كثيرة تتكلم عن الفرح والإيمان مما يدل على أهميتهما لحياة كل إنسان.
لا حياة سعيدة من دون الفرح والإيمان، كل إنسان يتوق في قلبه إلى الفرح ويبحث عنه، لأنه يشعر في أعماق نفسه بأنه مخلوق من أجل الفرح، وهذا الشعور هو هِبة من الله. لنتذكر نشيد الملاك وهو يبشّر الرعاة ليلة عيد الميلاد ويقول: “لا تَخافوا، ها إِنِّي أُبَشِّرُكُم بِفَرحٍ عَظيمٍ يَكونُ فَرحَ الشَّعبِ كُلِّه: وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ” (لوقا 2/ 10- 11).
نفهم من هذه الآيات أن يسوع هو مصدر الفرح الحقيقي الذي لا يزول. إن الفرح الذي يتكلم عنه الأنجيل، له ميزة خاصة تميّزه عن بقية الأفراح، وهذه المِيزة هي الألم الرسولي، الذي هو العلامة البارزة للفرح المسيحي. يقول ربّنا والهنا يسوع المسيح بهذا الخصوص: “الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ستَبكون وتَنتَحِبون، وأَمَّا العاَلمُ فَيَفَرح. ستَحزَنون ولكِنَّ حُزنكم سيَنقَلِبُ فَرَحاً” (يوحنا 16/ 20)، وفي أنجيل متى نقرأ: “طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي، اِفَرحوا وابْتَهِجوا: إِنَّ أَجرَكم في السَّمَواتِ عظيم، فهكذا اضْطَهدوا الأَنبِياءَ مِن قَبْلِكم” (5/ 11 – 12). كذلك نقرأ في سفر الأعمال، أَمَّا هَم فانصَرَفوا مِنَ المَجلِسِ فَرِحين بِأَنَّهم وُجِدوا أَهلاً لأَن يُهانوا مِن أَجْلِ الاسْم (أعمال الرسل 5/ 41). أما الميزة الأخرى التي يتميز بها الفرح المسيحي هي: أنه نابع من الأيمان، الذي هو علاقة شخصية مع الله الحي ويتجسَّد في حياة كل مؤمن.
إن رسول الأمم، القديس بولس، يكلمنا في رسالته إلى أهل فيلبي، عن فرح الإيمان، لنقرأ ونتأمل: “وأَنا عالِمٌ عِلمَ اليَقينِ بِأَنِّي سأَبْقى وسأُواصِلُ مُساعَدَتي لَكم جَميعاً لأَجْلِ تَقدُّمِكم وفَرَحِ إِيمانِكم” (1/ 25).
نعم إن فرح الأيمان، هو ثمرة جهاد روحي يجعلنا أن نزداد إتحاداً بيسوع المسيح ويمنحنا القوة والشجاعة لكي نشهد له في كافة مراحل حياتنا. كذلك، إن الإيمان والفرح هما من ثمار الروح القدس كما جاء في الرسالة الى أهل غلاطية: “أَمَّا ثَمَرُ الرُّوح فهو المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف” (5/ 22 – 23). ولذلك علينا أن نطلبهما دائماً في الصلاة.
كما إن الألم هو علامة الفرح الحقيقي، كذلك فإنه علامة الإيمان الحي والفعال. في رسالته الثانية إلى تلميذه طيموتاوس، يقول بولس الرسول، شهيد الحب الإلهي: “فَجَميعُ الَّذينَ يُريدونَ أَن يَحيَوا حَياةَ التَّقْوى في المسيحِ يسوعَ يُضطَهَدون” (3/ 12) وفي رسالته إلى أهل فيلبي يقول: “لأَنَّه أُنعمَ علَيكُم، بِالنَّظَرِ إِلى المسيح، أَن تَتأَلَّموا مِن أَجلِه، لا أَن تُؤمِنوا بِه فحَسبُ” (1/ 29).
إننا نعيش في عالم سيطرت عليه ثقافة الإلحاد والماديات وانهارت فيه القيم الأخلاقية السامية والمبادئ الإنسانية النبيلة، وتفتك به الحروب وما تخلّفه من القتل والموت والدمار والآلام والتشريد والخوف والقلق.
لنصلّي كيما يعود الإنسان الى وعيه ويكتشف الغاية التي من أجلها خلقه الله بحكمته، وهي أن يؤمن به ويحبّه ليشاركه حياته الإلهية اللامتناهية، حياة الفرح والسلام.
لنصلّي كذلك من أجل الكنيسة لتتحمل مسؤوليتها النبوية ولا تخاف من أن تسير ضد تيار العالم كي تبقى أمينة على رسالتها التبشيرية والاستشهادية التي استلمتها من مؤسّسها ومخلّصها ربّنا والهنا يسوع المسيح له كل الإكرام والمجد والسجود، الذي قال: “قُلتُ لَكم هذِه الأَشياء لِيكونَ لَكُم بيَ السَّلام. تُعانونَ الشِدَّةَ في العالَم ولكن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم” (يوحنا 16/ 33).
لنطلب كذلك إلى أمنا مريم العذراء، التي إختبرت فرح الإيمان في حياتها الأرضية لأنها أصغت إلى كلام الله وعملت به، أن تساعدنا بصلاتها المستجابة كي لا نشك أبداً بفاعلية كلام الله وتأثيره الإيجابي على حياتنا. “فقالَت مَريَم: “تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي، وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي، لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة. سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأَجيال، لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة: قُدُّوسٌ اسمُه، ورَحمَتُه مِن جيلٍ إِلى جيلٍ لِلذَّينَ يَتَقّونَه” (لوقا 1/ 46 – 50). إن مريم، ما زالت تقول لنا اليوم: إن الله يستطيع اليوم أن يعمل في حياة كل واحد منا أموراً عظيمة لكي يتمجد اسمه ويأتي ملكوته.
أرجو من الذين يقرأون هذه الأسطر أن يصلوا من أجلي كي أعيش ما تبقى لي من الحياة الأرضية بالإيمان والرجاء والمحبة وشهادة الحياة. مع الشكر
ولنبقَ متحدّين بالصلاة