البعد اللاهوتي والروحي لعلامة الصليب
المطران المتقاعد رمزي كرمو
اسطنبول 2 تشرين الأول 2024
لقد تعلَّمنا منذ الصغر من والدَينا أن نرسم علامة الصليب والتي هي عبارة عن رفع اليد اليمنى إلى أعلى الجبين ثم وضعها على البطن ومن بعدها تحويلها إلى كتف اليسار واليمين، وبهذه الحركة البسيطة نميّز أنفسنا عن الآخرين كمسيحيين. لكن غالباً ما نقوم بهذه الحركة بصورة سطحية وتلقائية من دون أن نتأمل في بُعدها اللاهوتي وعمقها الروحي.
إن رسم علامة الصليب تذكرنا بأهم العقائد المسيحية التي يرتكز عليها إيماننا المسيحي والتي ثبتتها المجامع المسكونية في القرون الأولى وتعترف بها كافة الكنائس المسيحية. حينما نرسم علامة الصليب على ذواتنا نلفظ في نفس الوقت هذه الكلمات: “باسم الأب والإبن والروح القدس الاله الواحد آمين” أي إننا نعلن إيماننا بسرّ الثالوث الأقدس الذي هو محور وأساس حياتنا المسيحية. ليس مسيحياً من لا يؤمن إيماناً ثابتاً وغير متزعزعاً بأن الله هو واحد في جوهره وثلاثة في أقانيمه. هذا السرّ لم يكشفه لنا العقل البشري بل كشَفه لنا الإبن الوحيد ربّنا والهنا يسوع المسيح له كل المجد والاكرام والسجود. “إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه” (يوحنا 1/ 18).
كذلك نقرأ في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية بخصوص سرّ الثالوث الأقدس ما يلي: “لقد كشَفَ يسوع عن الله أنه أبّ بمعنى لا مثيل له، فلا تنحصر أبوّته في كونه خالقاً، إنه أب أزلي في علاقته بابنه الوحيد، الذي لا يكون، منذ الأزل، إبناً إلا في علاقته بالأب” (فقرة 240 صفحة 95) ويسوع يقول في إنجيل متى: “فما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ الابنَ إِلاَّ الآب، ولا مِن أَحدٍ يَعرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْن ومَن شاءَ الابنُ أَن يَكشِفَه لَه” (11/ 27). ولقد اعترفت الكنيسة بصورة رسمية بمساواة الابن مع الآب في جوهر واحد في مجمع نيقية المسكوني الأول سنة 325. أما الإيمان الرسولي بالروح القدس كالأقنوم الثالث من الثالوث الأقدس فقد اُعلن واُعترف به في المجمع المسكوني الثاني الذي إنعقد سنة 381 في مدينة القسطنطينية (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية فقرة 245 صفحة 96).
كذلك إن رسم علامة الصليب، تذكرنا بعقيدة أخرى لا تقل أهمية عن عقيدة الثالوث الأقدس والتي بواسطتها إكتمل عمل التدبير الخلاصي، وهي عقيدة سرّ الفداء التي من خلالها نؤمن، بأن ربنا والهنا يسوع المسيح بواسطة آلامه وموته على الصليب وقيامته خلص البشرية من الخطيئة والموت الأبدي وفتح لها باب السماء والحياة الأبدية. لنقرأ ونتأمل: “بهذا ظهَرت محبةُ الله لنا بأنه أَرسَلَ ابنَه الوَحيدَ إِلى العالَم لِنَحْيا بِه” (1 يوحنا 4/ 9) و”هكذا أحبَّ الله العالم حتى أنه بذلَ إبنه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة” (يوحنا 3/ 16). أما رسول الأمم وشهيد الحب الألهي القديس بولص‘ هذا ما يقوله بخصوص سرّ الفداء: “فمع أنه (أي المسيح) في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. لِذلِك رَفَعَه اللهُ إِلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء. كَيما تَجثُوَ لاسمِ يسوع كُلُّ رُكبَةٍ في السَّمَواتِ وفي الأَرْضِ وتَحتَ الأَرض ويَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيداً للهِ الآب” (فيلبي 2/ 6 – 11).
إن رسم علامة الصليب تكشف لنا سراً مُهِماً آخراً وهو سرّ التجسُّد أي: سرّ الكلمة الذي صار إنساناً، كما جاء في الأنجيل المقدس: “والكلمة صار جسداً فسكنَ بيننا فرأينا مجده مجداً من لَدُن الآب لأبن وحيد ملؤه النعمة والحق” (يوحنا 1/ 14). أما كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية في شرحه لسرّ التجسد يقول: “صار الكلمة جسداً لكي يجعلنا شركاء في الطبيعة الألهية، فهذا هو السبب الذي من أجله صار الكلمة بشراً، وابن الله إبن الأنسان، لكي يصير الإنسان إبن الله بدخوله في الشركة مع الكلمة وبنيله هكذا البنوة الإلهية. إذ أن إبن الله صار إنساناً لكي يصيّرنا الهة. إبن الله الوحيد، إذ أراد أن يشاركنا في ألوهيته، تلبس بطبيعتنا حتى إذ صار هو بشراً يصير البشر الهة” (فقرة رقم 460 صفحة 152).
هذه العقائد التي هي حقائق إيمانية، والتي تغذّي حياتنا المسيحية وتثمرها، نُشير إليها ونعلنها حينما نرسم علامة الصليب، ولهذا نستطيع القول بأن رسم هذه العلامة المقدسة هو من الصلوات المسيحية المهمة التي تعلّمناها منذ نعومة أظفارنا. إن هذه الصلاة القصيرة والمختصرة بكلماتها والغنية بمحتواها الروحي واللاهوتي، إذا أديناها بإيمان وتقوى وخشوع فإنها من دون شك سوف تطرد منا الأرواح الشريرة وتصوننا من السقوط في تجارب الجسد والعالم ومغرياته وتمنحنا الشجاعة لكي نشهد أمام العالم لإلهنا الواحد والثالوث وللمسيح الإله المتجسد الذي بموته وقيامته فدى البشرية. للعلم، إن رسم علامة الصليب يعتبر لدى إخوتنا أتباع الكنيسة الآشورية بفرعيها: (كنيسة المشرق الآشورية والكنيسة الشرقية القديمة) أحد أسرار الكنيسة السبعة وذلك نظراً لأهميته وقدسيته.
لنشكر الربّ من كل قلبنا على صلاة “رسم الصليب” التي قبل أن تكون عملاً ظاهرياً وجسدياً هي فعل إيمان صادر من أعماقنا، أي إنها عمل الروح القدس في حياتنا.
أرجو من الذين يقرأون هذه الأسطر أن يصلّوا من أجلي كي أعيش ما تبقى لي من الحياة الأرضية بالإيمان والرجاء والمحبة وشهادة الحياة. مع الشكر
ولنبق متحدين بالصلاة رباط المحبة الذي لا ينقطع