ملحق- ذكريات التسعينات
الوزير الكاهن، السفير، وزير الإعلام، الملاكم كلاي، لوبين، الفنان الفروجي
أ.نوئيل فرمان السناطي
بعد المقالين المتتالين عن الذكريات، وجدت أن ثمة عناوين أخرى رأيت أن أوردها كملحق للمقالين المذكورين. وهي مشاهد متنوعة غير مترابطة ببعضها أوردها في هذه الصفحات.
الوزير الكوبي كاهنا موقوفا لـ 30 سنة
معظم الذكريات جاء على هامش مرافقة كبار الضيوف، ومنهم الزائر الدوري طبيب الكسور د. كامبرس (1934-2023) مستشار الرئيس فيدل كاسترو، والذي خص دائرة المراسم برسالة شكر وإشادة عن القيام بمرافقته في أعقاب زيارة له سنة 1992. ومن ضمن أنشطته، ما جاء في المقابلة بجريدة الكاردينيا: زيارة رئيس نيكاراغوا السابق دانيال اورتيغا القادم بزيارة تضامنية، وكان أولاده الخمس يملأون دار الضيافة بالحركة والجلبة والحيوية. وهناك التقيت بالقس السابق (1933-2017) ميكيل ديسكوتو بروكمان Miguel D’Escoto Brockmann وزير خارجيته للسنوات 1979- 1990. وكان قد أوقف من قبل الفاتيكان عن ممارسة الكهنوت منذ 1984 في عهد البابا القديس يوحنا بولس الثاني، عندما كان المجلس الحبري للعقيدة والايمان بقبضة الكاردينال الألماني جوزيف رايتسنغر (البابا بندكتوس 16) منذ 1981. وبعد تقاعد الوزير/ القس ميكيل بروكمان كان الفاتيكان قد أعلن إعادته إلى الخدمة الكهنوتية سنة 2014 بعد أن كان قد قدم طلبا بذلك إلى قداسة البابا فرنسيس. ويبدو أن ما شفع له في ذلك هو محافظته على الحياة المكرسة، فلم يتزوج برغم اقتران انشطته بالسياسة؛ وقد رحب الاب ميكيل بهذا الخبر السار زاعما أن قرار توقيفه لم يكن عادلا.
زيارة للسفير التايلندي المسن
هناك نكهة قد تضفيها الشهادة المسيحية على الانشطة الوظيفية، من شأنها أن تخفف من رتابة العمل فلا تمر بصمت على حالات ما، بل تحفز لمبادرات انسانية، بدون ان يظهر عليها انها أعمال محبة استعراضية، هذا ما وجدته بتواضع في مذكرة كانت بين اوراقي الوظيفية رفعتها إلى الدائرة من باب الحس الانساني. إنها تتعلق بوضع يثير الشفقة تجاه السفير التايلندي في بغداد في بحر التسعينات؛ ذلك أن السفير الكوبي كان قد رتب لمواطنه الدكتور كامبرس، زيارة تفقدية إلى سفير تايلند للوقوف على حالته الصحية وإعطائه بعض المشورة والدواء. وقد تلقى السفير بعض النصائح من الدكتور كما أعطاه بعض الحبوب، منها ما حفز ابتسامته فعمل حركات رياضية لمفعولها المقوي. ولاحظت الابتسامة عينها عندما كان كامبرس يسلم الحبوب كأمانة إلى الحماية. الهدف من رفع المذكرة كان عما أخبرني به د. كامبراس، بعد زيارتنا تلك للدبلوماسي المتقدم في السن وهو من العائلة المالكة بتايلند، بأنه يشكو من نقص حاد بالكالسيوم المؤدي إلى ضعف العظام، ويعاني من الفقرات العنقية ويمشي على مسند رباعي متحرك. فكان الهدف من التقرير، هو جلب الانتباه نحوه برعاية معنوية ومتابعة ضيافة تجاه من اختارته بلاده ليكون سفيرها في بغداد بسبب جوّها المشمس الملائم لصحته، مع الاقتراح بأن تكون وزارة الخارجية على بيّنة من وضعه. وكم كان حبوري في الاحتفاظ بنسخة من المذكرة المرفوعة وما تكون قد استحثـّته من مبادرة المعنيين في السلك الدبلوماسي العراقي تجاه السفير المذكور.
الوزير إلى قاعة استقبال الامير
تم تكليفي بالذهاب إلى وزير الثقافة والاعلام آنذاك المرحوم لطيف نصيف جاسم (1941- 2021) لمرافقته إلى قاعة استقبال أحد أمراء الخليج، الكائنة في قصر رئاسي بجزيرة الفارس العربي على طريق المطار. وفي التفاتة خاطفة، خلال انعطاف السيارة الرئاسية نحو الجزيرة، وإذ كنت، وما زلت بعيدا عن قلافة حجب الرؤية من الزجاجة الامامية للسيارة، لمحت الوزير يرفع بهدوء متخفي ستارة الجامة بجانبه ليتملّى المنظر الخلاب، كمن يندر له المرور به.
وهناك كان الرئيس في تبادل هدايا مع الأمير الذي عندما غادر في نهاية زيارته، كنا مع حمايته، أمضينا ليلة المغادرة، ليقوم حماية الأمير بالفحص الالكتروني لكل الحقائب، التابعة له ولمرافقيه وحمايته. وهي الحالة الوحيدة التي شهدتها خلال كل الزيارات لكبار الضيوف، والتي تمت قبيل الأحداث الكارثية لغزو الكويت.
لم تتوفر فرصة تبادل اي حديث مع الوزير الراحل، سوى مرة واحدة، عندما كنا نُـكلــَّـف بمرافقة كل وزير إلى إحدى مناسبات الاستقبال في القصر، إذ نمشي على شمال الوزير منذ نزوله من السيارة إلى مدخل القاعة. فكانت تلك فرصة لحديث قصير معه؛ وقد تصادف ذلك بعد مداخلة متلفزة للوزير نصيف الدليمي، خلال اجتماع لمجلس الوزراء. ونقاش عن الموظفين، فجاءت مداخلته بشأن فتح مجال العمل لهم، حسب إمكاناتهم وفراغهم بعد الدوام والتركيز على فائدة ذلك على صُعُد عدة. فأشرت إلى تلك المداخلة بإشادة، وما كنت انتظر الرد لتلك الإشادة بسوى الابتسامة او إشارة شكر، أو تعليق آخر ذي صلة. إلا أن إجابته كانت مفحمة لي إن لم تكن موحية بالحذر من موظف بسيط مثلي إذ قال: طبعا، فنحن من مدرسة السيد الرئيس.
الملاكم العالمي كلاي في بغداد، بعيدا عن الأضواء والكاميرات
محمد علي كلاي الملاكم المعروف، رياضي كان يشد الأنظار منذ الستينات والسبعينات، وفي 1977 ظهر عنه فيلم من إخراج توم غرايز و مونتي هيلمان، مأخوذ من كتاب “الأعظم” من تأليف الملاكم كلاي مع ريشارد درهام. وقد مثـّل الملاكم دور البطولة في الفيلم إذ جسّد هو ذاته شخصيته. هذا النجم الرياضي العالمي، حلّ في بغداد لمدة اسبوع في تشرين الثاني 1990 لمبادرة شخصية مع النظام العراقي السابق، بشأن الرهائن في أعقاب غزو الكويت. وخلال احد واجبات المرافقة، في قصر الرشيد، هالني ان ألمح النجم الرياضي جالسا وحيدا بقرب شباك اللوبي، ترافقه رجفة الباركنسون، لا جليس معه ولا كاميرات ولا أضواء. كان ذلك على هامش المقابلة مع رئيس النظام والتي تمخضت عن تحرير 15 من الرهائن الامريكان. وقد توفرت لي في صيف 1977 مشاهدة الفيلم المذكور عن حياته بعنوان (Io sono il più grande) في احدى صالات السينما بروما. وكنت أمضيت في العاصمة الايطالية بعض الوقت خلال تنقلي بين انجيزا- فلورنسا قرية الفوكولاري، والمدرسة الكهنوتية للفوكولاري في بلدة فراسكاتي بضاحية روما. وأود الإشارة إلى ان هذه المدرسة كانت تقع في شارع باسم الكاردينال الحاصل على لقب مكرم على طريق التطويب سنة 2016. إنه كولييمو ماسايا (1809 – 1889) وفي تلك المدرسة شاهدت له شهادة عن مهمة قنصلية باسم الفاتيكان قام بها في البلد الذي ضمن الشهادة كان يحمل اسم فلسطين… بعد أن صارت فلسطين في زماننا من حال إلى حال.
الملحاح جان ماري لوبين زعيم اليمين الفرنسي (1928- 2021)
يستجد الحديث عندي عن هذا الموضوع، وهو انه تم مؤخرا تعيين ميشيل بارنييه (73 عاما) في آب الماضي، رئيسا لوزراء فرنسا، وهو من حزب الجمهوريين الفرنسي، وموالي للاحزاب اليمينية التي اكتسحت مؤخرا الانتخابات التشريعية: كتلة التجمع الشعبي بقيادة جان لوك مالانشو المعادي للكنيسة والاكليروس، وكتلة التجمع الوطني وراعيته مارين لوبين، وبزعامة السياسي الشاب جوردان مارديلا (مواليد أيلول 1995).
هذا التجمع الوطني كان قد أسسه عام 1972 جان- ماري لوبين، تحت اسم الجبهة الوطنية، وبقي يُنظر إليه نظرة تهميشية. فقد عُرف لوبين بتعصبه المتطرف ضد الفرنسيين من أبناء المهاجرين، وقد أقيل قسرا من قبل ابنته، قبيل وفاته بسنوات، ليس لأنها أقل تعصبا منه، بل لتقدمه في السن. هذه المقدمة عن شؤون الساعة أوردتها كمدخل للحديث عن ذكرى مشاهدة عابرة للسياسي جان ماري لوبين الذي قد زار بغداد في تشرين الثاني 1990. وكان احد الزملاء الاقدم في دائرة المراسم بحاجة لأن اترجم للسياسي الفرنسي عن تفصيل بروتوكولي، خلال تواجده مع مجموعة من الضيوف، قبل مدة من موعد مقابلة رئيس النظام. وكما معروف، جاءت زيارته هو الآخر، بهدف إخلاء سبيل رهائن فرنسيين ضمن الظروف المشؤومة لغزو الكويت. فقدمت نفسي بالفرنسية، وترجمت ما أراده الموظف الأقدم. فالتقط الرجل الاشارة، وبقي خلال اليومين اللاحقين، يسعى للاتصال بي في دائرة المراسم من خلال بدالة القصر. وكان الحاحه، حسبما استخلصت، تحت وهم ان موظف المراسم بيده مفتاح الحلول وأنه على تماس مع الجهات العليا في القصر، مما جعلني اسعى قدر الامكان لتحاشي الإجابة على مكالماته.
الفنان الفروجي، بين مقابلة ترجمة، وحديث أمام المستشفى
اختتم بهذه المفارقة الطريفة عن ترجمتي للفنان اسماعيل الفروجي، الذي كان قد حصل على توصية ليقابل الطبيب الكوبي بشأن ساقه. أتذكر هذا الفنان الشجاع الذي لم يمنعه فقدان ساقه ان يشق طريقه نحو النجومية. وكان في تلك المقابلة، قد طلب استشارة الطبيب بشأن طريقة التعامل مع ساقه المبتورة. الذي حدث بعد حوالي يومين أني كنت خارجا لتّوي من زيارة في مستشفى سان رافائيل بحي الكرادة، ولم أكن أرتدي الهندام الرسمي، فيكون ذلك سببا لعدم تعرفه علي، ويبدو انه حسبني واحدا من المعجبين الذين يسألون عنه. بينما كنت أظنّ أنه يتذكرني من مقابلة الاستشارة الطبية، فسألته عن أي تطور في أخباره، قاصدا ما الذي عمله بشأن علاج ساقه. أما هو فقد ذهب فكره في شأن زوجته الراقدة في ذاك المستشفى بسبب المخاض، فأجاب على الفور ليشرح حالها بالقول: (فتح بطن…) تبلعمت أمام الإجابة وتمنيت لزوجة الفنان السلامة، و مضيت في سبيلي.
وبعد عزيزي القارئ، أود أن أنوّه بأن ثمة مشاهد أخرى من الماضي استطاعت ان تستخرجها من ذاكرتي، الفنانة التشكيلية الأديبة إيمان البستاني في مقابلة لجريدة الكاردينيا الالكترونية التي يديرها الاستاذ جلال جرمكا، وكانت بعنوان فنجان قهوة مع الأب نوئيل فرمان.. وثمة ايضا مقابلة لمجلة (Alberta Views) أجراها الروائي والصحافي الكندي مارتشيلو دي سينثيا (Marcello Di Cintio) مؤلف الرواية التحقيقية (الاسوار عبر العالم)، وكانت المقابلة بعنوان: ترتيلة بالارامية (A hymn in Aramaic) مع عدسة المصور الكندي جيمس ماي (James May)