الرجاء والرجاء الكاذب
لمناسبة عيد الصليب 14 أيلول 2024
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
إذ يحلّ علينا عيد الصليب، بما يحمله لنا من رمزية عيشه في أوقات المحن والصعاب، كصليب يحمله المؤمن المسيحي، بروح الرجاء، ليسير به إلى عيش إيمانه بفرح مسكونٍ بالرجاء. لذلك في الظروف الصعبة، نحن مدعوون لتعزيز الرجاء فينا. هذا الرجاء هو موقف إيماني على مثال أبينا إبراهيم الكلداني الذي “آمنَ على خلافِ الرجاء، وصارَ أباً لاُممٍ كثيرة” (رومية 4/ 18).
للأسف اختلف الناس عن السابق. لقد فقدوا نوعاً ما القيم والثوابت والعلاقات الاجتماعية، التي تربيّنا نحن عليها. الكلّ يتكلم عن ثقافة هذا الزمن، هذا العالم. الكل يركض وراء المال والنجاح والسلطة والسعادة، لكن الناس مُحبَطون بسبب المشاكل المتراكمة، وفقدوا الأمل والصبر والمثابرة. والمسيحيون تغيَّروا أيضاً، لحدّ انهم لفرط ما تأثروا بالمحيط الغالب، صاروا جزءً من هذا “العالم”. ينجرّون وراء التذمر والتشكّي والانتقاد، بدل ان يمارسوا حقهم بصدق، ويدركوا ان المجتمع يحتاج إلى التزامهم في المجال المدني والثقافي والاقتصادي والسياسي، ليكونوا فعّالين في التغيير، لا اتكاليين لا يصنعون شيئاً!
في البطريركية نستقبل يوميّاً مسيحيين مُحبَطين، يُعبرون عن مظلوميتهم وهمومهم. ويشتكون بمرارة انهم لم يستفيدوا من مزايا تغيير النظام، وانهم كأقلية هُمِّشت حقوقُها، وسُلِبَت مقدَّراتُها، لكن عندما تتدخل الكنيسة لانصافِهم يتهمونها بالتدخل في السياسة!
ولكن مع عودة إلى خصوصيتهم الإيمانية، يتعين على المسيحيين ان يدركوا ان طريقهم ليس مفروشاً بالورود، وان يسوع كان قد أعلن لتلاميذه عن اضطهادات متواصلة.
وان أرادوا التغيير فعليهم ان يعطوا الأهمية لإيمانهم على مثال الرسل وأجدادهم، وان يسلّطوا نور الإنجيل على ما يحصل لهم بالصلاة والصبر، ويهتدوا باستمرار نحو الله |
الصليب الفارغ علامة الرجاء
عليهم ان يتأملوا بالصليب الفارغ المُعلّق في كنائسنا المشرقية (ضمن كاريزما كنائسنا)، رمزاً للصليب المُمَجّد، لان المصلوب عليه (المسيح) قام. ونحن أيضاً سنقوم إن سلَكنا طريقه. وهذه مقارنة بخصوصية الصليب لدى الكنائس الغربية، الذي عليه رمز المصلوب، في كونه صليب التضحية.
من المؤكّد ان ليس الصليب من يخلّصنا، انما المسيح، لكن يبقى الصليب رمز الحب الأعظم. الصليب الفارغ يدعونا أن نضع أنفسنا عليه، أو نختبره في حياتنا “من لا يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحقني” (متى 10/ 38). هذا يجب ان يدركه المسيحي. الرجاء بانتصار الصليب يتحقق، شيئاً فشيئاً، وليس دفعة واحدة. لذلك علينا أن نتعامل مع الصعوبات التي نواجهها برجاء، ونقرأوها كعلامات أزمنة، لان التفكير باننا ضحايا الظلم هو إنتصار للشر. علينا إذن ان نبذل جهودنا لفعل الخير. وأتمنى، من ثمّ، ان يُدرَج “الرجاء” في التربية المسيحية” بقوة في كنائسنا.
شجاعة الرجاء
الرجاء الحقيقي يعني عدم الخوف من رؤية الواقع كما هو بتناقضاته. نظرتنا الإيمانية ينبغي ان تتَّسم بالإيجابية، فان الله في هذا الوقت المُربِك، يدعونا الى إظهار محبّتنا بقوة أكبر، لنسمع في أعماقنا ترنيمة “المجد لله في العلى، والرجاء لبني البشر” (لوقا 2/ 14). هذا مخاض شاق وطويل. المستقبل سيكون أفضل عندما نُساهم باعداده، ولا نتهرّب من المسؤولية، وننجرّ إلى الطموحات الزائفة كشهوة المال والسلطة والشهرة والتفرقة. الشرّ بالرغم من عنفه، ليس موازياً للخير. الخير يدوم والشر لا يدوم، لذا يدعو مار بولس: ” كونوا فرِحين في الرجاء” (رومية 12/ 12).
الرجاء هو بوعد حضور الله. انصتوا الى وعده لارميا النبي: “فإِنِّي ساكون مَعَكَ لِأُنقِذَكَ” (ارميا 1/ 8). وقول يسوع “أنا معكم كل الأيام” (متى 28/ 20). هذا الحضور الموعود باهض الكلفة. يتطلب منا أن نتخلى أولاً عن كل تعزية وهمية. هذه التعزيات غير حقيقية، تاتي لتملأ حياتنا وتشغلنا عن الجوهر.
في الماضي، تم التركيز على” نكران الذات” هناك سوء فهم للفكرة، أو يتم تقديمها بشكل سيء. التخلي الذي يقصده الانجيل هو التخلي عن الدعامات (الزعامات؟) الوهمية مثل تلميذيه يعقوب ويوحنا (مرقس 10/ 35-45). يطلب الله منا على وجه التحديد أن نتخلى عنها، لنتمكن من اللقاء به. انه لا يريد ان نضحي بما يساعدنا على تنمية شخصيتنا لكي نعيش الحاضر، لكنه يريد ان نلتقيه في الحقيقة، لان الله حاضر في العالم الحقيقي وليس الخيالي.
الرجاء ضّد كل رجاء
الرجاء المسيحي بالضرورة “يرجو ضد كل رجاء” (رومية 4/ 18). هذه الفضيلة التي تغنّى بها الشاعر الفرنسي شارل بيغي (ولد في مطلع عام 1873 وتوفي مع بدء الحرب العالمية الاولى يوم 5 سبتمبر 1914) وذلك في قصيدته الموسومة: على عتبة الفضيلة، واستشهد بها البابا فرنسيس، كالأخت الصغرى للفضائل. إنه الرجاء ضد كل الآمال الزائفة التي تُغرينا وتشغلنا عن مواجهة الشر، وتبعدنا عن العالم الحقيقي حيث ينتظرنا الله. كيف يمكنه أن ينقذنا إذا تعلقنا بهذه الامال الفارغة والتعزيات البشرية؟ رفض هذه الآمال الزائفة (الطموحات) هو بالفعل عمل من أعمال الرجاء، وهو يعني انتظار الخلاص من الله وحده.
“سأكون معكم كل الأيام”. إنها فرصة متميزة لنا، تتطلب ان نبذل جهداً لتذليل الصعوبات الحالية التي نواجهها. يقول بولس الرسول في الرجاء “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني” (فيليبي 4/ 13).
إن الله نفسه هو موضوع رجائنا الوحيد وهذا مختلف تماماً، عمّا نسمّيه عادة الأمل في تحقيق شيء ما نتمناه! علينا ان نحوّل الرجاء الى وقت للصلاة والتأمل والعمل |
الرجاء في بعده المستقبلي
الرجاء هو الاستعداد بقوة من أجل المستقبل. هذا البُعد المستقبلي للرجاء مهم. والخلاص الذي يقدمه لنا الله سيُحدِث سعادة لم نكن نتمكن من الحصول عليها وحدنا. انه ليس انتظاراً فحسب، انما هو هِبة يجب ان نستقبلها بفرح. الرجاء هو عربون امتلاكه.
الله الحي موجود
انه يفاجئنا، ويحرّكنا، ويحقق نجاتنا بطريقة غير متوقعة
إنه رائع!
الرجاء هو “فضيلة لاهوتية” للغاية، أي ان الله “هدفها”، وفوق كل شيء تتيح لنا هذه الفضيلة، المجال للوصول المباشر إلىه. ينبغي بالتالي، فهم التعبير جيداً. نحن لا نملك الله كما نملك سيارة، بل لدينا اليقين بان لنا أباً رحوماً قريباً منا يعرفنا ويحبّنا: “هأنذا واقف على الباب، وأقرع إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه” (رؤيا 3/ 20).
الرجاء والحياة الابدية
الرجاء هو في الحاضر والمستقبل. والحياة الأبدية تبدأ منذ الآن وتستمر إلى الأبد، وليست بعد موتنا فحسب. بموتنا نبلغ “الملء” اذا عشنا إيماننا بأمانة وفرح.
الرجاء هو الإيمان بأن الله يجعلنا قادرين على القيام بالأفعال الأبدية. هذه الأفعال لها ثمار أبدية، لانها نابعة من الحب، وهي وحدها تبني الأبدية “ملكوت الله” فينا. |
في القداس، أعطانا يسوع حياته (جسده) في رمزية الخبز والخمر. تعالوا لنستقبلها ونعيشها الى النهاية. وبمشاركة مفعمة بالرجاء والفرح تدمجنا في المسيح، وتُحركنا للبلوغ الى كمال الليتورجيا (المسيح).
علينا الا نتوقف أبداً عن تلقي هذه النعمة الكبيرة بالحبّ والبهجة لأنها كما جاء في قداس مار توما في الليتورجيا الكلدانية هي “لمغفرة الخطايا وللحياة الأبدية“.
صلاتنا إلى الله هي
ليساعدنا على الإستمرار في الرجاء