ذكريات من التسعينات (2-2)
الرسالة العلمانية مع وظيفة متفرّدة، تلميحات وشخوص ، محطات نيرة
أ. نوئيل فرمان السناطي
في المرحلة القائمة من العمر، أدركت أكثر من ذي قبل مضمون قول الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز(1927-2014): لن يصل شيء من أفكارك إلى أحد حتى يرى نور الكتابة. وبشأن الجزء السابق من المقال، إني ممتنّ للأصداء الطيبة عنه والداعية إلى الجزء الثاني. وكما وعدت الاحبة القراء، بأن السرديات هنا ستكون عموما بعيدة عما ورد سابقًا من شدّ وقهر، بل قد تتمخض عن تلميحات طريفة أو ظريفة؛ لا سيما بعد أن كنت قد اجتزت حقبة التمرس وتقولبت على مهنية المكان. هكذا سأسترسل بعض الشيء، وللقارئ الكريم ان يأخذ الوقت في القراءة او اختيار ما يخاطبه من عناوين فرعية.
رسالة المؤمنين العلمانيين
مع الاب الراحل ألبير أبونا: منذ زيارة كنيسة السنك في مطلع 1990 وعلى مرّ السنوات القليلة اللاحقة لمست بنعمة مجانية تبلور انتعاش انجيلي مع خطوات مفرحة في حقل الكهنوت الملوكي للعلمانيين على رتبة ملكيصادق؛ أي أن العلمانيين، وبتأكيد المجمع الفاتيكاني الثاني، لهم دور مهم في الرسالة المسيحية لا يقتصر على الاكليروس. وكما أسلفت في ذلك المقال، لم يكن بعد يخطر ببالي، أن المسؤولين الامنيين من “الربع” في الدائرة الرئاسية، ومن زاويتهم الخاصة لا يحبذون حتى للمـِسيحي ان يمارس “تديّنا” معينا في حياته الخاصة خارج الدوام… فكنت قد استأجرت مع عائلتي الطابق الاعلى في دار أحد الأقرباء بحي الدورة، قريبا من كنيسة مار يوحنا المعمذان، ودير الرهبان الكلدان حيث كان الأب الراحل ألبير أبونا. وسارعت للتواصل معه مستظلا بدفء رعايته ومحبته. فكان يأخذني كل ثلاثاء عصرا إلى دار أخوات يسوع الصغيرت بحي الكمب حيث قداس شبابي، كان يمثل قطعة من الفردوس، في مقاسمة الإنجيل بأجواء من الفرح السماوي. واحتفظت حتى أشهر خلت، بإهداء من توقيعه لكتاب الصلوات الطقسية، وإذ دأبت في العقدين الأخيرين بألا احتفظ بما هو ثمين لنفسي، بل اودعه لأجيال لاحقة، اهديته لحفيد عمتي الذي رسم في هولندا شماسا رسائليا بعمر 16 سنة.
التفاتة أخوات يسوع الصغيرات: وتلقيت في تلك الحقبة من اخوات يسوع الصغيرات كتابا فرنسيا لمؤسّستهن على خطى الأخ شارل، الاخت مادلين يسوع، بعنوان: يسوع رب المستحيل. فطاب لي أن أمضي خفاراتي، في تعريبه على الالة الطابعة، وأهديتهن نسخة عربية على شكل كتيب، فما كان منهن سوى أن يعملن على طباعته في لبنان بجهود الاخ شاهد الايمان الزاهد “نور” مؤسس تلفزيون النور- تيلي لوميير، وكرمتني الاخوات بنسخ منه، مع مغلف، كان يومذاك كافيا لشراء سيارة فولكس-فاكن مواليد 1967… وإذ لم أكن متمرّسا في السياقة اودعتها مرآب- كراج شقتي الحكومية التي كنت انتقلت إليها بمجمع الطاقة الشمسية، مكتفيا في الغالب بتشغيلها صباحا ولكن بنحو غير متمرس أيضا طرق اسماع جاري في الطابق الأعلى، فنبهني بكياسة عن طريق مدير الدائرة وكالة الاستاذ الراحل جابر توفيق النجم الذي كان من الطيبة ان يأتي ليأخذني إلى الدوام. وعندما احتجت في أحد الأيام إلى دفعها، ساعدني زميلي العزيز المرحوم سمير العاني المجاور لشقتي الارضية. ومن طريف ما شرح لي كيف انه أحيانا من المفيد أن تبث للسيارة “مشاعر ايجابية” فقد تتجاوب معك! ثم قال لي خلال استراحة من الدفع: أخي نوئيل نحن جيران، ما رأيك ان نصبح أصدقاء! فربطتنا علاقة الطيبة، وكذلك مع اسرته، بعد رحيله شبه المفاجئ، إثر عملية في الرأس. فجاءتني فيما بعد إلى البطريركية (خلال سنة الخدمة 2019) زوجته الرسامة التشكيلية المبدعة أم رسل، مع ابنها أحمد، لتقاسم الإفطار معهم. وكانت قد سألت هاتفيا أسرتي عن الأكلة التي افضل، لتفرشها مع تشكيلة الافطار بعد أن استجلبتها من محل شواء متخصص في المنطقة…
كنيسة مار يوحنا المعمدان ودعوة الاب الراحل نجيب ككو: كنت اعتقاد، ان الشماس عندما يذهب إلى خورنة جديدة، ولئلا يوحي للشمامسة بأي مزاحمة معهم الأفضل أن يجلس مع الجمهور حتى تستجد الحاجة إليه، فأخبرهم عني الشماس المرحوم يوسف عيسى السناطي والد البروفسور أفرام عيسى. فأخذت مكاني فيما بينهم. وفي مناسبة قدمت لي أخوية الشباب بطاقة دعوة إلى إحدى محاضراتهم، فكلفني راعي الخورنة بتقديم سلسلة قصيرة من الشروحات عن رسالة بولس الرسول إلى الرومانيين، فكان ذلك بمثابة اعداد الغذاء والانتشاء بمذاقه.
وفي صباح نهار جمعة رأيت الأب نجيب من شرفة الغرفة يأتيني ليقول: ماسير باعوث ما استطاعت ان تأتي، ارجو ان تأتي لتلتقي بجموعة الشباب. فتهيأ لي في شخصه أن يسوع ينزل من سيارة كرونا ويدعوني بالقول: تعال اشتغل. فكان الانطلاق مع الشباب اليافعين، وأخوية نبع المحبة، مع المهندسة المعماري حكيمة، ومجموعة رسولية طيبة، مثل الست بان، والاخوين أسعد وفارس وغيرهم ممن لا تسعفني الذاكرة عن اسمائهم. والتفت يومذاك إلى ان الهالة الطيبة التي تحيط بالكاهن خادم الرعية، هناك ما يناظرها بشأن خدمة العلمانيين في الرعية.
تلميحات وشخوص: هذه الخدمة خارج الدوام، كانت بموازاة العمل الوظيفي في النهار، والخفارات الاسبوعية. وهنا اورد بعض التلميحات عمن صادفتهم من شخصيات.
قبضة يد الملك حسين: كنت معجبا بهذا العاهل الأردني، فهو ابن عم ملكنا الشاب الشهيد فيصل الثاني (المغدور سنة 1958) ويمتاز بكاريزما راقية، ولغة بليغة وخطابات جذابة. وقد قرأت كتابه: مهنتي كملك بنسختيه العربية والفرنسية. كان في أحد الأيام على شرفة باب القصر الجمهوري، فتصادف مرورنا من هناك بحضوره، فحيا كلا منا بقبضة يد حميمة وابتسامة محبة، فكيف بالامر اني كنت أحاكيه بالقامة ومستوى نظر العينين…!
ياسر عرفات وتحليل ديسموند موريس: وكان واقفا معه على الشرفة الزعيم الفلسطيني وهما يتحادثان وأعينهما شاخصة في الأفق، فصافحنا بدوره بحرارة وابتسامة عريضة. وحدث اني عندما لمحت وقفته، تذكرت ملاحظة كتبها الانثروبولوجي ديسموند موريس، في معرض تحليلاته عن لغة الجسد لدى الانسان، بكتابه المعنون: القرد العاري، قال: الانسان ينحو إلى السيطرة على الجهة العليا من جسمه، أطراف يديه ونظراته وابتسامته، لكنه قد لا يلتفت إلى اطرافه السفلى فهي تكشف على غير انتباه منه، انفعالاته وتوترات شخصيته ان وجدت. هذا ما فكرت فيه إذ رأيت الزعيم عرفات يحرك ساقه اليمنى بوتيرة ملفتة للنظر.
التهاني البروتوكولية: وبوحي من ذلك الاعجاب بالملك حسين، تهيأ لي ان أقوم بما كنا نكلف به، من تحرير التهاني البروتوكولية في الأعياد والمناسبات الوطنية. ولدى وجود ظرف دقيق بالعلاقات، يوجه سكرتير الرئيس بأن نأخذ المسودة لمراجعة نائب رئيس الوزراء. وبحسب المدّ والجز في العلاقات، يقوم باللازم، فرفع النائب في تلك الفترة، كلمات، مثل “جدا” في (يسرني جدا) وأخي العزيز في عبارة (اخي العزيز صاحب الجلالة).
تهنئة باسم أحد الكبار: وفي احدى الخفارات، أحال إليّ موظف البدالة مكالمة بالقول: معك الاستاذ، وكانت تلك هي المرة الاولى. أمام المفاجأة: جاوبت المكالمة بالقول: نعم استاذ. – اشلونك نوئيل؟ -نعم استاذ. ليكرر: شلونك نوئيل! – بخير استاذ أشكرك. ثم كلفني بتحرير برقية تهنئة إلى رئيس المجلس التشريعي آنذاك لمنطقة كردستان للحكم الذاتي. واردف: اكتبها وارسلها مباشرة إليهم. فكتبت البرقية، بعبارات من قبيل: تهاني الحارة وتمنياتي القلبية، مع التوقيع: أخوكم… وفي اليوم التالي لمست الوقع الاستثنائي للتهنئة، من خلال برقية الشكر الجوابية من متلقي التهنئة في جريدة العراق، وابتسمت في سرّي أمام ما رأيته سببا في أنه استغرق في الشكر ايما استغراق.
السبابة المكسورة للاستاذ الآخر: وكنت نوّهت بأني رافقت بانتظام، مبعوث الرئيس الكوبي، طبيب الكسور د. رودريغيس الفاريز كامبارس، ففي مرة كان له موعد مع الاستاذ الآخر في مستشفى ابن سينا، فجاء وعرض على د. كامبرس يده اليمنى مع الكسر الواضح في مفصل عظم السبابة، فسأله طبيب الكسور: كيف حدث هذا، ليجيب “الاستاذ”: حدث الكسر بكيس التدريب على الملاكمة (punching bag) فاستغرب الطبيب متسائلا: كيف لكيس الملاكمة ان يعمل هذا؟ وفيما بعد علمت انه كان قد ضرب احد مرافقيه، فكسر له سنيه الاماميين.
وكان موعد آخر مع من درج على تسميته بـ “الاستاذ” في مقر اللجنة الاولمبية. وكنا انتظرناه لمدة طويلة جدا، والمرافقون يقولون: سيأتي الأستاذ بعد الصلاة… وبعد المقابلة، واذ ضايقنا الوقت وتحسبا من ازدحام الطريق، سألته أثناء المصافحة ان كان ممكنا أن سيارة أخرى ترافقنا بسبب الزحام المرتقب… فلم يجبني بشيء، مما يجعلني الان اشك، من خلال التأخر في الحضور ومن عدم الاجابة، أنه لم يكن الشخص الاصيل بل البديل.
مفارقة العيدان: وكنا بعد تلك المقابلة على موعد مع الراحل خالد عبد المنعم رشيد، لدعوة غذاء في نادي الصيد، وكان عامل الخدمة من بلد عربي. في نهاية الطعام سأله الاستاذ خالد، ان كان لديهم عيدان تنظيف الاسنان، قال سيذهب ليرى ذلك، وعندما استبطأناه، ذهبت إليه لأجده ينبّل أطراف عيدان الكبريت بشفرة موسى الحلاقة…! فقلت له لا حاجة بها.
أقدم فريقين ركن: هناك ما يجعل المرء يستطيب صغره، الذي نشأ عليه، مما يجعله على مرّ الزمن، ينظر بانبهار إلى اشخاص بقوا في الذاكرة من كبار المسؤولين. كنت جنديا بسيطا في مقر الفرقة الرابعة بالموصل، عندما كنت مع مقر الفرقة بواجب في منطقة باصطكي شمالي الموصل، حيث رأيت لأول مرة الفريق الركن عبد الجبار شنشل. وكان في مرحلة خدمتي وزيرا للدولة تهيأ لي أكثر من مرة مشاهدته، لدى الاستقبالات الرسمية للوزراء اذ كان كل موظف مراسم يرافق وزيرا إلى قاعة الاستقبال. وأثناء الحرب، تصادف تواجد “أبو مثنى” في زيارة إلى ملجا بحي المنصور، المقر البديل خلال الحرب. وكانت القواطع متجاورة، والصوت يتسرب، عندما طلب رئيس النظام العلم العراقي، فأخذه إليه مدير المراسم ليخط عليه بخط الرقعة العبارة الدينية (الله أكبر) التي بقيت ترافق العلم حتى بعد السقوط، مع الاقتصار على استبدال نمط خط الرقعة الى الخط الكوفي.
الفريق سعيد حمو: إنه أحد مؤسسي الجيش العراقي، وسبق وأن شاهدته بمقر الفرقة الرابعة محاطا بحفاوة من كبار القادة. وقد حدث وتم تكليفي بزيارة تكريمية له، فذهبت إلى بيته بقرب ساحة ميسلون. وما زلت اذكر حرارة ترحيبه ودماثة أخلاقه، ولا انسى، كيف وقف كالجندي احتراما للعبارات التفقدية التي كلفت بالتعبير عنها له.
التماس برسالة خطية: يبدو ان رئيس الديوان كان قد ارسل “التماسا” إلى حسين كامل، ولما لم يأت الرد، وخشية الا يكون تكرار الالتماس مزعجا للمرافق الذي اصبح فريقا، لجأ رئيس الديوان إلى طريقة متفردة، إذ دعا الخطاط محمد البغدادي ليخط له الرسالة بخط محترف، وتضمنت الالتماس الودي عن الطلب الذي لا اتذكر تفاصيله.
مقترح احد الرؤساء العرب: عمم احد الرؤساء العرب مقترحا، انه حان للامة العربية ان تستبدل في الاستخدام اليومي التقويم الميلادي بالتقويم الهجري… فما كان من رئيس النظام إلا أن يهمّش المقترح بهذه العبارة: وماذا نتوقع من هذا المعتوه.
مناشدة البابا القديس يوحنا بولس الثاني: كان من الملاحظ ان كبار المسؤولين في عهد رئيس النظام السابق، يحيلون اليه، ما يتمنون في قلوبهم ولكنهم يتحاشون من الرهبة الافصاح عنه، لثنيه مثلا عن المضي في مواجهة الحرب خصوصا بعد الغلطة الكارثية لغزو الكويت. من ذلك رسالة البابا مار يوحنا بولس الثاني، يناشده فيها ان يركن الى السلم بدل الحرب، وعرض الوساطة للانسحاب من الكويت. فكان الرد بهامش بعيد عن الاستجابة مؤكدا على عدم التعويل على وساطة بشرية، ومنتهيا بعبارة “التكبير”.
تكريمان من رئيس الديوان
التكريم الاول: جاء عن مقترح رفعه مسؤول المراسم إلى رئيس الديوان مع الاشارة إلى أنه جاء من السيد نوئيل فرمان، ليسأل رئيس الديوان: نعم، ومن هو السيد نوئيل فرمان.. فقدمني المشرف كأحد الموظفين الجيدين، ليهمّش رئيس الديوان حاتم حمدان العزاوي (المتوفى سنة 2022): “يكرم بمبلغ 500 دينار”. فحوّل هذا الأمر إلى الجهة المالية مدير المراسم وكالةّ، الصديق الاستاذ أبو جعفر (القيسي). وتبنّى رئيس الديوان المقترح كقرار تم تعميمه الى جهات عدة منها: مكاتب الوزارء، الطاقة الذرية، البنك المركزي، الرقابة المالية، أمانة بغداد، التصنيع العسكري، الخطوط الجوية، مع نسخة الى عدة جهات منها: المجلس الوطني، نائبا رئيس الجمهورية، منتهيا بنسخة إلى دائرة المراسم، مع الاشارة إلى مذكرتها في 6 آب 1992 المتضمنة المقترح، والذي جاءت صياغته في جريدة الجمهورية ليوم 19 آب، بعنوان “صور ضوئية” ومما جاء فيه: نسب الديوان ان توضع صور ضوئية وبحجم مناسب في الاماكن التي تم اعادة اعمارها، مع الاشارة إلى حالها قبل وبعد إعادة الإعمار.
التكريم الثاني: وبمبلغ مماثل يعادل اضعاف الراتب الشهري… جاء بعد الزيارة السنوية التي كنت أقوم بها للسفارات والكنائس الرئيسية لمناسبة أعياد الميلاد والسنة الجديدة لتقديم هدايا الرئاسة بضمنها (قطعة كيك، وجذع شجرة طبيعية) وكان السياق بالتحفظ بشأن الهدايا، عند تقديم هدايا الرئاسة، خلافا لسياق قبول هدايا ضيوف الرئاسة. فكان قد أهداني السفير الصيني، تقويم العام الجديد مع سوارين تقليديين صينيين لعائلتي. فأحلتهما بمذكرة رفعها في 28 كانون الأول 1993، رئيس المراسم وكالة الصديق المرحوم جابر توفيق نجم إلى رئيس الديوان، مع هامش بهذه الكلمات المؤثرة جدا: …علما بأن موظفنا أعلاه ينال جزءا من قلبي، حيث كنت أشكره في سرّي مرات عديدة لتفانيه في خدمة الدائرة.
سفراء وسفير: كان السفراء يستقبلون موظفي الرئاسة مع الشكر للهدايا بمناسبة العيد، أذكر إلى جانب التنويه عن السفير الصيني، السفيرة الامريكية كلاسبي كاثلين التي اتذكر انها تتحدث بعض العربية باللهجة اللبنانية. وأذكر اسلوبهم الراقي في التعامل، ولا غرابة لأنهم دبلوماسيين. فإلى جانب هذه المناسبة، تصادف وعرفت عددا من السفراء مثل السفير الجزائري، وأول ما سألته، كان عن شارل دي فوكو ومنطقة تمنراست، حيث إخوة أخوات يسوع الصغيرات، فأيد بدبلوماسية معرفته بهم بدون ان يفصح عن فكرة محددة بهذا الشأن.
وعن سفراء الفاتيكان “القاصد الرسولي” في بغداد، فعلى مر السنوات ولمدة ما بعد الوظيفة، عرفنا المطران لاتزاروتو، وزرت المطران (الكاردينال) فيلوني. أما رئيس الاساقفة المطران ماريان اوليش، فكان القاصد الرسولي خلال تلك الزيارات الميلادية، وبقي في بغداد خلال الحرب، ولا اعرف شيئا دقيقا عن طبيعة تعامله من البطريركية آنذاك. ما لفت انتباهي لدى زياراتنا كفريق موظفين من الرئاسة، هو انه خلال المقابلة، كان يقتصر حديثه على الجالس بجانبه، كأن يكون السائق… او أي موظف آخر ويمضي معه في الحديث والسؤال والجواب حتى النهاية دون الموظفين الآخرين.
السفير العصبي: أما السفير الوحيد الذي رأيته خاليا من أي حد من الكياسة وبلا اي علاقة بالعرف الدبلوماسي واحترام أبناء البلد المضيف، فلا يستغربن القارئ ان يكون كذلك، المدعو عزام الاحمد سفير فلسطين في العراق، الذي خرج عن طوره حانقا على سائق المارسيديس الرئاسي وكنت بجانبه، لمجرد هفوة في نقطة ايصال عزام إلى المبنى المقصود. هكذا تصرف السفير المذكور والذي ربما جزء من راتبه يأتي من كدّ الشعب العراقي. ومع البحث في فيديوهاته المنشورة، تبين لي ان الرجل قد يكون مصابا بتوتر الاعصاب، من ذلك ما وصف به في إحدى المقابلات بالتطاول على الذات الإلهية.
اللهاث المريب الى جهاز الاستنساخ ليلا: يبدو ان الديوان كان يشجع خطوط الحماية في القصر لإكمال دراستهم الإعدادية أو الجامعية. لكنهم كانوا يتعاملون مع هذا التشجيع بطريقتهم الخاصة! هذا ما حدث في يوم خفارتي بالدائرة. إذ جاءت مجموعة من الخط الثاني من افراد الحماية وهم يلهثون، وطلبوا استخدام جهاز الاستنساخ، وكانوا كمن يتوجس من كمين. حتى فهمت لماذا جاؤا بهذه الطريقة بشأن الجهاز، وهي انهم حصلوا مسبقا على اسئلة الامتحانات…
اللواء ارشد ياسين واربطة العنق: في خاتمة هذه فقرة تلميحات وشخوص، لا بد ان انوّه بذكرى إيجابية عن مرافق اقدم هو المرحوم ارشد ياسين (توفي في الدوحة- قطرسنة 2022). كان ذلك بعد احالتي على التقاعد، عندما اتصل بي احد الأقارب الموظفين لديه، بأن عنده “وركة – ورقة” جلبها لي من سويسرا من أحد الضيوف الذين كنت ارافقهم، ويلتقي به في زياراته الى سويسرا، وهو ممثل شركة لانفان ومصمم أزياء الحرس الجمهوري، برنارد ريت. فخابرته، شاكرا ومحرجا إذ قلت: شكرا استاذ، ولكن كان يمكن لبرنارد ان يرسل رباطا سويسريا بدل الورِكة – الورقة، فأجابني: “عجل” – إذن، الاربطة عليّ أنا، فأرسل لي مع القريب الصديق أثير إلى جانب هدية برنارد، مجموعة اربطة. ونقل أثير اعتذار زوجة أرشد، نوال ابراهيم الحسن، لكون الظرف مفتوح إذ حسبته خاصا بهم، وأنه، أمانةً، كان يحتوي فقط على تلك الورقة النقدية…
برنارد ريت وأسقف الجنوب الفرنسي: وكانت توطدت، عبر مرافقات منتظمة، صداقة أخوية وثيقة، مع هذا مصمم الازياء السويسري من اصل فرنسي برنارد ريت. وتواصلت معه بعد وفاة زوجته، لسنوات خلت، حتى صمت هاتفه هو الاخر، قبل بضع أعوام. ففي أحد الاحاديث عن الشأن الكنسي، روى لي برنارد أنهم كانوا في زيارة مطران بجنوب فرنسا، وانه لدى استقباله لهم في مكتبة، لاحظوا شابا يافعا يخرج ويدخل الى المكتب كأنه في بيته، وينادي المطران بكلمة بابا – باباتي، حتى عرفوا أن المطران كان متزوجا واختار سلك الكهنوت بعد ترمّله، وإذ كان زوجة امرأة واحدة فقط، بحسب قول بولس الرسول، فقد اختاروه فيما بعد للاسقفية.
وفي يوم آخر، شاهد برنارد انبهاري كمصور هاوي أمام كاميرته المتطورة: التحكم عن بعد، ومضاعفة فيلم 35 صورة إلى 70 صورة. فما كان منه في نهاية سفرته تلك، إلا ان اهداني آلة التصوير تلك. فاستخدمتها لمدة، حتى شراء تلك السيارة القديمة حيث تساءلت في سري: ماذا سافعل اذا عطلت السيارة وصارت بحاجة إلى تصليح مكلف، فذهبت بالكاميرا الى مصور في نفق الباب الشرقي، وانذهل هو ايضا بها وقبل بالسعر الذي كنت احسبه مناسبا لي ليشتريها حالا. وعلى كل حال سرعان ما بعت تلك السيارة لأحد المعارف، وكان جهاز تبديل السرعة (الكير) فيها يقتصر على التبديل إلى السرعة 2، فقلت للصديق باسلوب العارف: ما اعتقد انك في ازدحامات بغداد تحتاج الى تبديل السرعة إلى رقم 3 ليبادلني بنظرة تساؤل إن كنت جادّا فيما أقول: وكنت جادّا…
وزير العدل الامريكي السابق وقصة نيكاراغوا: كان ذلك خلال أيام الحصار واشتداد وطأته على العراق. وكان رامزي كلارك، قد زار العراق لأكثر من مرة زيارات تضامنية مع الشعب المحاصر. وكنت مرة مكلفا أن أكون معه لساعة قبل إحدى المقابلات. ويبدو انه كان متعوّدا على هذا السياق خلافا لما شاهدناه من أطوار عند الكاردينال سيلفستريني. أثناء الحديث خلال تلك الساعة، خطر لي أن أسأله كيف يرى ما يحدث على العراق من الجانب الأمريكي، في تعامل خال من الانسانية مضيفا: ولئن كان هذا يدخل في المنحى السياسي فالطابع المسيحي يبقى محسوبا بطريقة أو بأخرى على الأمريكيين. فأقر بالقول: إن الولايات المتحدة لجأت بالفعل إلى ان توظف بعض البدع الدينية لتمرير مخططات سياسية، وأورد هذا المثال: …من ذلك، كان قد تمّ ضخ مجموعات كبيرة من تلك الجماعات تحت غطاءات دينية متنوعة إلى نيكاراغوا ضد الرئيس دانيال اورتيغا، وفي الانتخابات عملوا على الترويج لصالح شامورو بصفتها أرملة مناضل، فخسر اورتيغا بتأثير تلك الجماعات الدينية.
بن بيلا وذكريات الطفولة: وتوفرت فرصة ذهبية ان أجالس لحوالي الساعة أيضا الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بيلا (توفي عام 2012 عن عمر 95 سنة) ولمست أنه كان يتكلم عربية جيدة، قياسا بمستواها لدى تسلمه السلطة سنة 1963 بعد تحرير الجزائر، إذ اكن يتندر استاذنا في مادة الادب العربي الأب الراحل جبرائيل جرخي، عندما كان يذكر بأن الرئيس بن بيلا كان يلقي خطاباته النارية عن العروبة، بلغة تغلب عليها الفرنسية مكررا وبالفرنسية ايضا: نحن العرب… (Nous, les Arabes). وأوردت له ذكريات جميلة عن ذاك الزمن إذ قلت: يا سيادة الرئيس، لقد رافقت طلعتك مخيلة طفولتنا. فقال ممازحا: ما كنت أعرف أني بهذا السنّ المتقدم… وشرحت له كيف كنا طلاب ابتدائية في مطلع الستينات من القرن الماضي، نشاهد صوره مع قادة عرب في الساحات الرئيسية بمدينة الموصل… وفي الاشارة إلى الحصار، حكى لي بن بيلا كيف انهم خلال حرب تحرير الجزائر، كانوا أيضا أمام الحصار والهيام في البراري، يجدون في أنواع النباتات البرية مصدر غذاء لهم في سبيل البقاء.
مسك الختام
إهداء اوتواغرافين من الام تريزا: استطيع أن أجزم في ختام هذا المقال الاخير عن بعض ذكرياتي، أني لو خيرت بين كل ما عانيته في بدايات العمل بتلك الدائرة، وبين فرصة لقاء الام تريزا (الحائزة على جائزة نوبل 1979) لما ترددت بالطبع، عن قبول العمل هناك. وسبق وأن كتبت عن ذلك في مجلة نجم المشرق، وفي الموقع البطريركي بعنوان: لأول مرة… خفايا عن زيارة الام تريزا الى العراق، وكذلك أجرت معي اذاعة راديو كندا لقاءًا عنها لمناسبة افتتاح رعية باسمها بعد اعلان قداستها سنة 2016 في يوم ذكرى وفاتها 4 أيلول. وإذ لاحظت المذيعة أني بدل التحدث عنها بنحو اعتيادي كنت اتغرّد بسيرتها قالت: يبدو انها تركت لديك ذكرى عميقة.
فقد تم تكليفي بمرافقتها غداة حرب الخليج لمدة ثلاثة أيام، وهي المدة التي من خلالها يتم البت في حصول الضيف على مقابلة رئاسية أم لا. ومن المعروف ان هذه القديسة تبارك بلقائها الكثيرون من أبناء كنائس بغداد، بضمنهم عائلتي، خصوصا وانها حلت في دير الراهبات بدل فندق قصر الرشيد وبطلب منها. لكني كنت محظوظا بمرافقتها شخصيا، وأكون معها في سيارة واحدة. وكانت الفرصة بأن أتلقى منها ذكرى اوتوغراف بخطها على صفحة كتاب عن سيرتها إذ كتبت لي: “ميستر نوئيل، أحبب الغير كما الله أحبك، تذكر ان أعمال المحبة هذه أعمال سلام، الرب يباركك”. وكتبت لخورنتي العزيزة السابقة بكنيسة مار يوحنا المعمذان وراعيها الراحل القس نجيب ككو في الدورة: (الأب العزيز وكل ناس خورنة القديس يوحنا، كونوا قلبا واحدا، ضمن قلب يسوع، وعبر قلب مريم، ليبارككم الرب. الأم تريزا 6 حزيران 1991) الاوتوغرافان خطتهما الأم تريزا بقلم حبر كنت أخذته معي لهذا الغرض، واحتفظت بالقلم والاوتوغراف على الورقة الاصلية، إلى قبل عامين كذخيرة أصلية من الدرجة الثانية. وإذ كنت أرى أني لا استحق ان احتفظ لمدة أطول بمثل هذه الذكرى اودعتهما في أيار 2021 إلى جهة ذات ديمومة، للاحتفاظ بهما من بعدي للأجيال اللاحقة. تلك الجهة هي دير الراهبات التأمليات في دير سانت ماري دي بولور بمدينة اوش بقرب مزار القديسة العذراء في لورد، كنت أزوره بانتظام، ولي فيه أخت روحية “الأخت ميريام” واحتفظ الان فقط بالسبحة الوردية الحمراء التي أهدتها لي الأم تريزا مع كلمات بقيت محفورة في قلبي: ميستر نوئيل، هذه سبحة الوردية هي حمراء كالحب. ثم قادتني إلى كابيلا الصلاة، وأشارت الى ما درجن على كتابته تحت الصليب في كل بيوت مرسلات المحبة، وهي كلمات يسوع: أنا عطشان، فيسقين بمحبتهن وخدمتهن، كل الفقراء روحيا وأنا منهم، وكل الاطفال المتروكين ليكونوا ضيوف شرف في بيوتهن.
وبعد إذا كنت في المقال السابق، تحدّثت عن انعطافتي الروحية في كنيسة القديسة تريزا للطفل يسوع في 29 كانون أثاني 1990 (الباتري بيير بحي السنك) فإني أدرك ان اللقاء بالام تريزا، في حزيران 1991، كان نعمة ربانية أخرى بقي اثرها في حياتي المسيحية؛ هي التي يقال في سيرة حياتها، أنها اختارت اسمها الرهباني تيمنا بالقديسة تريزا للطفل يسوع.