ذكريات من التسعينات: بصيص نور عبر سنوات كالحة (1-2)
أ.نوئيل فرمان السناطي
بالرغم من أزمنة صعبة قاسيتُها إثر تحوّل مفصلي بالمسؤولية الوظيفية فقد شهدتُ أيضا خلال اعوام التسعينات من القرن الماضي انعطافة في دعوتي المسيحية. في المقال الحالي والذي قد يتبعه، اضمامات مأخوذة من المذكرات او على عهدة الذاكرة. وكان ضمن ما تعلمته في معهد مار يوحنا الحبيب، بشأن تطوير الملكة اللغوية إلى جانب دراستها، يتمحور في عاملين إضافيين: بالمراسلة وكتابة اليوميات. فكان أعز ما فقدته في حادث سرقة حقيبة (روما – ايطاليا آب 1977) فيها دفتر مذكرات منذ سنوات الاكليريكية، كنت احمله معي حيثما اتنقل. ثم بعد ظروف الحرب واستقراري الوظيفي في بغداد، شرعت بكتابة المذكرات، وقد وثقت فيها في مطلع السنوات 1990 وبعض المدة التي اعقبتها، ما ذكرتُ من انعطافة روحية وتحوّل وظيفي.
مباشرة انتداب وظيفي مهم بعد استعارة بدلة للمناسبة: كنت قد زاملتُ ابان الدراسة في مدينة تور الفرنسية (1978) طالب لغة جاء من بغداد بعد سنوات وظيفية مرموقة في وزارة الإعلام. وبعد بضع سنوات من عودتي إلى العراق، وخلال الحرب مع إيران، شاهدته في إطلالة تلفزيونية مديرا لدائرة مراسم الرئاسة في عهد النظام السابق. فحدث تواصل متقطع معه، وعرفت أنه بعد زمن قصير من دراسة اللغة الفرنسية، تم تعيينه كسفير للعراق في السنغال… وعند انتهاء مهامه كسفير عاد إلى بغداد ليلتحق بالمنصب المذكور، بعد حيازته على شهادة دكتوراه بالفرنسية. وطلب مني آنذاك أن أترجم اطروحته من الفرنسية الى العربية.
وفي أحد الأيام، في مرحلة الخدمة العسكرية للاحتياط، تلقيت مكالمة هاتفية منه أخبرني فيها، بأنهم بصدد انتداب موظفين يتكلمون اللغات، طالبا أن أحدّد له مكان خدمتي، فامتثلت إذ كان ذلك يُعتبر كجزء من استمراري بخدمة الاحتياط العسكرية ولكن في دائرة مدنية. وسرعان ما وصلت برقية بانتدابي لتلك الدائرة.
وكنت آنذاك اتقاسم خلال الإجازات، غرفة إيجار في بغداد مع صديقي، الفقيد عصام ميخا بيداويد؛ وإذ كنا بقياس ملبس شبه مشترك، استعرت منه بدلة غامقة اللون، لأباشر بها دوامي في 5 آب 1989 بالهندام الوظيفي المناسب، وكانت سياقات الهندام البروتوكولي: بدلة غامقة في المساء، وبدلة فاتحة اللون فيالنهار.
البيئة التمييزية التعصبية: كانت الأجواء في تلك الدائرة مكهربة بسبب الشدّ في العمل ورهبة المكان، وإذا بزميل الأمس، رئيس الدائرة، على كل ما عرفت فيه من أريحية، يتعامل بصرامة فهمت انها مفروضة عليه في ظل تلك الظروف. وفي حين كنت قبل ذلك قد امضيت سنوات في العمل الوظيفي بمساواة طيبة مع الزملاء والزميلات، سواء بوزارة الاعلام، او قسم الدراسات في السياحة ومرافقة الوفود، او في العمل
الخارجي كمحرر ومترجم لمجلة ألف باء. فكانت أولى مفاجآتي ان هذه الجهة العليا في العمل الوظيفي والإداري في هرم الدولة، يحكمها التعصب الديني بنحو متفاوت بين مبطن وظاهر، ما عدا الاستثناءات.
هكذا فإن أقدم موظفي تلك الدائرة، او من نقل إليها من دائرة رئاسية أخرى، كانوا من المتعصبين تجاه من هم من غير دينهم. وكانوا قد تعوّدوا عموما على التعامل مع من هم من غير ديانتهم، في مجال الضيافة او الاعمال الخدمية؛ وإذ لم يكن لديهم رصيد ثقافي يذكر، فإن التميّز الثقافي عنهم ما كانوا يعدّونه أمرا يستحق التقدير والارتقاء الفكري. فكان الأقدم يتصيّد الأخطاء للتنبيه عنها بنحو فوقي. بل وطرق سمعي أن هؤلاء القدامى في ديوان الرئاسة، إذا تبادر الحديث عني، كانت الاشارة إليّ تأتي بكلمة “المِـسيحي ” بكسر الميم.
وقد سبق وقالها لي شخص من هذه الطينة: كلما أريد أن أذكر اسمك، يا ” نوئيل” فكأني (أدوس بريك- أضغط على الفرامل).
ولم أتنفس الصعداء، إلا مع توافد موظفين آخرين من دوائر آخرى، سواء من خريجي اللغات او دوائر أخرى مرموقة خارج الديوان، وتشكّـلت معهم علاقات ودّية متواصلة.
هكذا وجدت نفسي في بيئة غير مُرحِّبة، لتلك الاسباب، وليس أقلها أني كنت على معرفة سابقة برئيس الدائرة… وأبسط مثال على ذلك، أنه عندما كان الواجب في 8/8/1989 يتضمن التواجد في ساحة الاحتفالات لافتتاح قوس النصر، تركني الموظف الاقدم وموزع المهام بدون اي توجيه عملي، لادير رأسي بحيرة ذات اليمين وذات الشمال، والكل في تلك الساحة منهمك في مهنيّـته. ومع الايام القليلة اللاحقة، كما هو الشأن في الخدمة الالزامية بالثكنات العسكرية، سعيتُ وِسعي لاندمج في اعمال استقبال الوفود الرئاسية ومرافقتهم، ضمن ما وفرته الحاجة الوظيفية لتكلم لغات أجنبية.
توافد زيارات الرؤساء: تلك كانت حقبة نهاية الحرب العراقية الايرانية، ومن المفارقة أن ما انفرز عنها من ضائقة اقتصادية مؤلمة لعموم الشعب، كان الاغداق على كبار الضيوف على قدم وساق، بل في ذلك شهر التحاقي بالخدمة، كان يتوافد رؤساء وكأنهم يقفون في الطابور لزيارة العراق وبانتظارهم الهدية المقسومة، وكأنها حصة مقررة لهم، ومعظمهم كان من ذوي الكراسي الرئاسية المهزوزة والتي سرعان ما كانوا يخلعون عنها:
الرئيس البنغلاديشي حسين أحمد ارشاد (14 آب 1989) الذي سيقال من منصبه في العام اللاحق؛
الرئيس التشادي حسين حبري (19 آب) والذي سيفقد السلطة في ت2، 1990؛
ثم كان دور العسكري عمر أحمد البشير كمن جاء في 28 آب ليقدم لرئيس النظام اوراق اعتماده كرئيس بعد شهر واحد فقط من استيلائه على السلطة في 30 حزيران. وضمن زيارته رافقناه في موكب الى البصرة وعدنا معه بطائرة خاصة بعد يومين.
وكان أول ظهور لي على الشاشة والصحف المحلية، مع زيارة الرئيس الفيتنامي ” فو تشي كونغ ” (10 أيلول) عندما حملت مع زميل آخر هدية قدّمها له رئيس النظام: رشاشة مطلية بالذهب…
ثم جاء الرئيس احمد عبد الله عبد الرحمن رئيس جزر القمر (13 أيلول) الذي يبدو انه أسرّ إلى الرئيس بأنهم يفتقرون حتى إلى ظروف رسائل، فملأنا منها شاحنة ليأخذها معه الى بلاده، قبل ان يتم اغتياله بعد بضع أسابيع من عودته (28 تشرين الثاني).
وفي 23 أيلول كانت زيارة أمير الكويت، الشيخ جابر الأحمد الصباح. وكان عنوان الزيارة التهنئة بانتهاء الحرب في 8/8/1988 وخلال اقامته كان ثمة توجيه تم نقله إلى موظفي الضيافة بشأن ما يتناوله الرجل:
لا شاي ولا قهوة، بل عصير برتقال، ماء هيل مغلي، خبز توست وسمك ودجاج.
وعلى ما أذكر كان من دواعي الهبوط الاقتصادي بسبب الحرب، إطلاق حملة لجمع ذهب العراقيات للتبرع. على انه خلال احتفالات الفاو، كان بانتظار الرؤساء وكبار الضيوف، مجاميع هدايا معجونة بالذهب وقطع من أسلحة الشهداء، مع ساعات ” أم الصورة ” وبماركات متنوعة وأعداد متباينة وبحسب هذه القائمة:
100 ساعة لونجين، 234 يونفرسال، 35 ساعة ماركة فافري لوبا. أما مجموع المصوغات الذهبية في تلك المناسبة فكانت: 30 سيت قلادة، 100 قلادة أم الخوذة، 279 قلادة أم الطلقة؛ إلى جانب 50 كيس حناء و100 مسدس عادي.
تلك الأجواء والانهماكات نزعت عن أعيني أي هالة من العمل الوظيفي، مع ارهاقات متراكمة والتعامل بتوتر يومي. على أن ذلك كان الارض الخصبة لتلقي نعمة الرب الغامرة التي شّحنـتْـني بما احتجتـُه لمواجهة اعباء السنوات المعدودة اللاحقة، فجاءت الانعطافة الروحية المفصلية، مع زيارتي لكنيسة قديمة في بغداد.
بصيص النور بين ليلة وضحاها: في عصر الأحد السابع للموسم الليتورجي- الطقسي للدنح (29 ك 2,1990 بحسب ما مؤشر في مذكرات اليوم التالي)، حدثت لدي بنعمة ربانية مجانية انعطافة روحية وذلك في كنيسة قديمة بحي السنك، كنيسة القديسة تيريز الطفل يسوع، والتي دُرج على تسميتها بكنيسة الباتري بيير. وكان كاهن تلك الخورنة الراحل القس توما مركو الذي صار فيما بعد معرّفي ومرشدي الروحي، والذي تعوّدت ان أراه يجيب عن أسئلتي بإجابات مستفيضة وبعينين مغمضتين. وقد عرفني بسيرة المكرّمة الفرنسية والرائية مارت روبان التي كان قد زارها في فرنسا خلال سنوات دراسته. دخلت إلى تلك الكنيسة في فترة استراحة من عملي كخفير في الدائرة، وأنا أقول في نفسي: هنا لا يعرفني أحد سوى يسوع… إذ كنت اذهب بانتظام كشماس رسائلي إلى كنيسة سلطانة الوردية. قرأ القس توما انجيل ذلك الأحد عن معجزة عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 1-11) وقول امنا مريم عن ابنها يسوع: ” إفعلوا ما يأمركم به.” فالتفتُّ شخصيا وكأنها للمرة الأولى، إلى حضور المخلص وأمه في وسط العائلة في الازمنة الصعبة.
وفي الايام اللاحقة، في خضم التوترات الوظيفية، كنت، كما يرد في تلك المذكرات، كنت الموظف بلسان حال الانسان الجديد: انفتاح إلى الزملاء، بروح الشهادة الصامتة والحميمة لانسان مسيحي يعيش بشرى انجيل يسوع، بفرح متسم بالحب والهدوء والفاعلية. يعيش البشرى بروح من الانسجام والسلام الداخلي..
محطات مهنية دقيقة: مع الاسترسال في المقال، أورد محطات مهنية متفاوتة في الصعوبة والتحدّي؛ وأمام تزاحم الذكريات، أرى انه سيكون لي ما اكتبه في مقال لاحق عن تعارفات وحالات تمثل عندي ذكريات متميزة: الام تريزا، وزير العدل الامريكي رامزي كلارك، الرئيس الجزائري أحمد بن بيلا. وهذه في مجرى هذا المقال بعض محطات مهنية مع ما اعتورها أحيانا من ارباكات..
مبعوث البابا يوحنا بولس الثاني: جاء إلى بغداد في مطلع التسعينات الكاردينال اكيلي سيلفستريني (1923- 2019) كمبعوث للبابا يوحنا بولس الثاني. ولأن الرجل من الاكليروس المسيحي، فقد عهد لي أحد قدامى موظفي المراسم، بمهمة حسبتـُها بديهية وهي الذهاب إلى حيث يتواجد، للتأكد ان كان لديه رسالة خطية، مما يقتضي بعض الاجراءات البروتوكولية عن الرسالة. فعرفت أنه في زيارة ضيافة بالدير
الكهنوتي في الدورة، فبعثت من خلال من فتح الباب بالسؤال إذا كان لديه رسالة خطية. فجاءني الجواب، من خلال البواب، يتصف باللغة الدبلوماسية، بدون التأكيد ان كان ثمة رسالة وبدون النفي، بل بمجرد التحفظ عن الإجابة بنحو مبهم.
وفي اليوم التالي، وكما كان السياق، ان يؤخذ الضيف في عهدة المترجم وأحد موظفي المراسم، ذهبت إلى مكان إقامته وقدمت له نفسي ب ” اسمي ” ودلالاته، فلمست كم كان الرجل شاردا تحت ثقل مهمة جسيمة.
وكان المطلوب منا امضاء حوالي الساعة معه، فكانت جولة في بغداد الجريحة بالقصف، مثل الجسر المعلق وأماكن اخرى، والمترجم الدكتور سامان كان بكياسة طيبة يحدّثه ويشرح له عن المناطق المدمرة… فما كان يبدو على الرجل اي رد فعل أو تعليق، وكأنه في عالم آخر. ولكن تغير الأمر بعض الشيء بينه وبين المترجم عندما جلس في صالة استقبال دار الضيافة خلال تلك فترة الانتظار، قبل اللقاء بالرئيس. وإذا بمبعوث الفاتيكان ينطلق في حديث ساخن وبحركات حماسية يتحدث عن مهمته كمن يقوم بمرحلة إحماء قبل اللقاء برئيس النظام، ليشرح للمترجم فائدة الانفتاح الى اسرائيل…
ولا شك ان ذلك كان ينم عن حسن نية، لكن حسن النوايا لم يكن كافيا آنذاك، ولا يتمّ التعامل معه بلغة دبلوماسية. وقد أشار المترجم د. سامان إلى هذه الواقعة، في معرض ذكرياته التي نشرتها جريدة الكاردينيا الالكترونية، قال فيها: ” كانت العقوبات الدولية قد بدأت بعواقبها المأساوية تنعكس على الشعب العراقي. ساعتها اقترح هذا المبعوث على صدّام أن يعترف بدولة اسرائيل كمؤشر للإرادة الطيبة الدالة على أن العراق يرغب في تطبيع علاقاته مع المجتمع الدولي.” والتفت الشارع العراق يومذاك إلى الطريقة التي قوبل بها المقترح، من خلال الحملة الاعلامية المضادة التي أعقبت زيارة الكاردينال سيلفستريني.
وتعود بي الذاكرة، إلى زيارة الرئيس القذافي في مؤتمر قمة بغداد 28/5/1990: دخل الرئيس الليبي إلى قصر المؤتمرات قبالة فندق الرشيد، بحالة استعراضية ظاهرة من حيث الملبس الابهة المعروفة عنه. وفي اتصال جانبي، بادرني أفراد من حمايته برغبتهم في الدخول إلى المؤتمر لأكثر من واحد، فكان أقرب من أردت الاستفسار منهم في هذا الشأن المرافق صدام كامل، الذي اجابني بنحو مبهم، تهيأ لي منه التأييد للغرض المطلوب، وعندما حدث بعدئذ التماسّ بين الحماية وطاقم التفتيش، و عُدنا إلى صدام كامل، نفى انه أبدى اي موافقة. مما كان موقفا محرجا ودقيقا، لا أعرف ولا أذكر كيف مر بأمانة وسلام.
ساعة صعبة بسبب الرئيس الجيبوتي: ومرة أخرى كنت عضو وفد التشريفات لمرافقة الرئيس حسن جوليد، وكان رئيس وفد التشريفات، الوزير الدكتور منذر ابراهيم الشاوي. بعد بضعة أيام من انشطة زيارة الرئيس الجيبوتي حسن جوليد، كنت في المساء في غرفتي بدار الضيافة التي حل فيها حسن جوليد، عندما جاءني شخص من الوفد، ليخبرني بأن الرئيس جوليد يريد ان يكلمني: فذهبت وفي ذهني أن لديه طلبا
طارئا. واذا به يقول: أود أن اشكرك على خدماتك في هذه الايام، ولعلمي ان الرؤساء يعطون للتشريفات هدية في هذه المناسبة، فإني اعتذر لأن ظروف بلادنا لا تسمح لنا بتقديم الهدية التي تستحقونها. مما فاجأني فشكرته مؤكدا أن خدمتنا ليست أبدا لقاء شيء.
أما الاحتكاك الصعب الذي جرى لي في فترة مرافقته، فإن الوفد الرئاسي الجيبوتي فاجأني بخبر ان أحد وزرائهم قد توفي وأن الرئيس جوليد قرر ان يقطع زيارته ليلتحق بمراسم التشييع. وإذ كان جدول توديع الرؤساء على قدم وساق، فإني سعيت على عجل أن أخبر رئيس دائرة المراسم، بينما كان الوفد الجيبوتي على اهبة الاستعداد لمغادرة دار الضيافة إلى المطار، وكأنهم لا ينتظرون اي ترتيب بروتوكولي بشأن التوديع. لكن رئيس المراسم قام باللازم، على ان تلك الواقعة كانت من أصعب ما واجهته في حياتي الوظيفية تلك، اذ صب عليّ رئيس دائرة المراسم جام غضبه مما تلقاه من شد وتوتر في تغيير موعد التوديع الطارئ، جاء ذلك وهو يحدثني عبر الجهاز اليدوي على مسمع من السائق والرئيس الجيبوتي ونحن في الطريق إلى المطار.
ومرت سنوات أخرى، لم يكن فيها الروتين الوظيفي خاليا من بعض الذكريات
الرئيس مسعود : من ذلك الروتين أني بعد 1991 كنت قد وصلت صباحا إلى موقع الدائرة الكائن في البناية المعروفة باسم المجلس الوطني، على الجانب الخلفي من وزارة التخطيط. وخلال هنيهات الدخول الى المبنى، حدث أني لمحت قبالتي سيارة بيضاء وكان سائقها قد ركنها في مكان بقرب باب الصعود إلى المبنى. وعلى مقعد المسافر لمحت، من نعرفه بالرئيس – سروكي- مسعود البرزاني. فنظر إلىّ نظرة مركزة، كمن يريد ان يتوسم ملامحي، أو ان يلفت انتباهي، لكن التزامات الوظيفية وما يسكنها من رهبة
وحذر جعلني، اطرق الرأس وأدلف إلى المبنى بدون إشارة محددة. وبحسب متابعة لاحقة، عرفت ان الاستاذ مسعود كان هناك لغرض المفاوضات بعد 1991 للمطالبة بحقوق الشعب الكردي. ومن هذا المنبر احيي سيادته مع تمنياتي لاقليم كردستان بالمزيد من السؤدد والازدهار.
مام جلال: وفي مرة أخرى، وضمن تلك ظروف المفاوضات على ما أعتقد، وإذ كانت دائرة المراسم في الطابق الاعلى وتطل على الباحة الداخلية المغلقة للمبنى، تصادف خلال تنقلي من مكتب إلى آخر، ان سمعت صوت جلبة في الباحة، فتطلعت وإذا به مام جلال الطلباني، كان قد خرج لتوّه من مقابلة مع رئيس النظام ومعه بعض مرافقي الرئيس، الذين دعوا المصور بعجالة ليلتقط لهم معه صورة تذكارية.
ظروف مغادرة المكان: وتهيأت لي فرصة مغادرة المكان عن طريق حالتين شبه متتاليتين. الأولى ان الدائرة كان يعمل فيها سائق تكريتي وعلى ما كنت اجهل، كان بنحو أو بآخر عنصر أمن. تزوج (ع) وعاد الى الدائرة كعريس جديد. ومن باب عدم الدراية يومذاك بالحساسيات الطائفية، كان لديّ كتاب أنيق وثمين ” نهج البلاغة “. فبادرت إلى إهدائه له بتمنيات طيبة لمناسبة زواجه. والان يمكنني أن أدرك رد فعل شخص من تكريت، يتلقى كتاب ” الإمام علي ” كهدية لعرسه، إذ سرعان ما فهمت الكثير من همهمته مع شيء من الحشرجة، وانتبهت إلى أني قمت بالاختيار غير الموفق مع الرجل غير المناسب.
وحدث بعد مدة أن أخذني (ع) وبطلب مني، إلى كلية بابل ببوابتها الحديدية ذات الصليب الظاهر، إذ كان آنذاك موعدي لتدريس اللغة الفرنسية. واستخلصت فيما بعد ان الرجل اتصل بجهاز الامن الخاص، ليخبرهم أنه اوصلني إلى مكان كنسي لالقاء محاضرة… مما جعل عناصر الجهاز يتحرون عني لدى احد الزملاء (سامي) فقال لهم الزميل، كما نقل لي فيما بعد: أنتم واثقون مني وتعرفوني جيدا، وعليه استطيع ان أؤكد لكم ان هذا الموظف نوئيل هو أحسن مني. ثم أوصاني قائلا: خفف قليلا يا نوئيل. وهكذا، وأمام تندر ومشاكسة ودية من الأب (مثلث الرحمة المطران جاك أسحق) طلبت الانسحاب من عضوية اللجنة الليتورجية.
واستمر سعيي للخروج من الدائرة، كأن يكون النقل، في طلب تم حفظه… وأخيرا جاءت مفارقة كللت هذا السعي.
السفير رافع دحام مجول: سبق وأن كنت ممثلا لدائرة مراسم الرئاسة، في اللجنة العليا التحضيرية لاحتفالات الفاو، التي كان يرأسها مدير إحدى دوائر المخابرات (المرحوم) رافع دحام مجول. وفيما بعد تعيّن سفيرا للعراق في تركيا. وصادف أن التقيتـُه في فندق قصر الرشيد، عندما كنت مرافقا لمبعوث الرئيس الكوبي كاسترو، طبيب الكسور الدكتور الفاريس دوريغيس كامبراس. وفي تلك الحقبة، كانت قد طرأت احداث شديدة الوقع لدى العراقيين المهاجرين الى اليونان عن طريق تركيا، بمقتل أحد المهاجرين.
فقال لي السفير رافع: لعل لديك فيما بينهم اقارب، فأجبته أن لدي أخا ذهب مؤخرا إلى تركيا بقصد الهجرة، وأنا متأكد انه ابعد ما يكون عن تلك الاحتدامات.
بُعَـيد اللقاء، كتبت تقريرا إلى الدائرة المعنية ذاكرا لقائي بالسفير رافع دحام وما جرى من حديث معه، مؤكدا ان لي أخا سافر مؤخرا الى تركيا. وكان من نتيجة هذا الاتصال ان خيروني بين النقل وبين التقاعد فاخترت التقاعد، وقمت بالمعاملة، مع مدير عام التقاعد آنذاك الاستاذ الكفء موفق جبرائيل عتيشا.
المغادرة: هذا وبعد مغادرتي الدائرة، كان لي التواصل الطيب مع مدير وزملاء من المراسم، وتوفر لي بأريحية اكثر أن أقوم بأكثر من زيارة، للدكتور الراحل نديم أحمد الياسين (1938- 2022)، خصوصا بعد وضعي الملامح الاخيرة لترجمة اطروحته، واعطاني نسخة مصورة منها، لم تزل في عهدتي، وعبر عن أمنية أن تتوفر لي يوما الفرصة لطباعتها، وهي بعنوان: (الاسلام في السنغال: المريدية واصولها القادرية،
اطروحة دكتوراه، تقديم ن. أ. الياسين، الإشراف البروفسور عمر سامب 1983.)
وكذلك تواصلت هاتفيا، مع مدير أسبق للدائرة الاستاذ المرحوم جابر توفيق النجم. ومع مدير آخر للدائرة، الاستاذ صادق القيسي، أبو جعفر، الذي من خلال ذلك التواصل الطيب، توفر له أن يحضر مراسيم ترقيتي إلى خورأسقف من قبل غبطة البطريرك الكاردينال لويس ساكو، في كنيسة انتقال العذراء، وبعد القداس تبادل السلام، مع غبطته.
وبعد، إذا قُـدّر لهذا المقال أن ينشر في الموقع البطريركي، فيمكنني ان اعقبه بآخر، ستكون السرديات فيه أقل توترا، بل كما أسلفت تشكل ذكريات خالدة، في مقدمتها مرافقة القديسة الأم تريزا.