بعد مرور 1600 سنة على مجمع البطريرك داديشوع 424، لا تزال الدنيا دوّارة
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
مفهوم الكنيسة
الكنيسة ليست مؤسسة عادية مثل المؤسسات المدنية، بل هي مؤسسة روحية إلهية يخدمها البشر لخير البشر، والبشر ليسوا ملائكة. الكنيسة هي المقدسة، وليس الأشخاص الذين هم من حيث المبدأ مدعوون الى ان يتقدسوا. الطبيعة البشرية مستنقع غرائز سوف تهلك الانسان، إذا لم يستطع ترويضها. الله يحترم حرية الانسان ليتحمل مسؤوليته كما في حالة ادم وحواء، قايين وهابيل. العقاب يأتي لاحقاً! المنصب لا يجعل الشخص عظيماً في الكنيسة، انما الإيمان والحب والخدمة المتجردة فقط تجعله قديساَ.
للكنيسة رسالتُها وعقيدتُها وخدامها وقوانينها وليتورجيتها (طقوسها).
الكنيسة واحدة وكنائس متعددة.
كنيسة واحدة، متحدة بالإيمان وشركة المحبة، والرسالة والاسرار المقدسة. لا تحدها رقعة جغرافية، ولا انتماء قومي، انها جامعة ومنفتحة على العالم أجمع: “اِذهَبوا في العالَمِ كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إِلى الخَلْقِ أَجمَعين” (مرقس 16/ 15).
وهي كنائس متعددة، بسبب انتشارها في بلدان متعددة، وشعوب متنوعة، وثقافات مختلفة. كل الكنائس الكاثوليكية والارثوذكسية لها تقليد “تواتر” رسولي، اما الكنائس المُصْلَحَة البروتستانتية التي تعود الى القرن السادس عشر فلا تعترف بذلك.
عموماً لم تنعم الكنيسة – الكنائس بالسلام التام بسبب الاضطهادات والصراعات والتطرف الديني. واليوم وفق الإحصائيات 80% من المضطهدين في العالم هم مسيحيون.
الأولوية – المركزية. تحولت هذه الكنائس الى أولوية مركزية بسبب التأثير السياسي والاجتماعي، والجغرافي واهمية العاصمة المدنية للدولة، فتحول أسقف العاصمة الى بطريرك او جاثاليق، لقربه من الملك أو الامبراطور حيث صُنْع القرار، كما حصل لاُسقف المدائن (ساليق وقطيسفون) بالنسبة لكنيسة المشرق1 والقسطنطينية بالنسبة الى اليونان، وغَدا اُسقف الولاية (المحافظة) كبير الأساقفة (متروبوليت). ولكل واحد عدد من أساقفة البلدات التابعة لولايته. لم تتضح صورة كلّ كنيسة وعلاقتها بالكنائس الأخرى، ولا بُنية البطريركية إلا لاحقاً. عموماً هذه الكنائس معترف بها وبرؤسائها.
الخلافات والتكتلات
نجد على مرِّ تاريخ الكنيسة خلافات وانقسامات في الكنائس. والأسباب معروفة: التنافس على الرئاسة البطريركية أو الرئاسة الأسقفية، العقلية القبلية أو القروية القبلية أو الاثنية، نجد ذلك بين أساقفة فارس وأساقفة بين النهرين، المصالح الشخصية، تدَخُّل السلطة المدنية أو جهات سياسية لعزل بطريرك ما وجلب شخص موالٍ لها. اذكر على سبيل المثال: عزل يزدجرد الأول البطريرك “معنا“، وفرض “بهرام الخامس فرابخت” ثم عزله2. أحياناً نجد ثلاثة بطاركة بين 524 – 539 اليشاع ونرساي وبولس3.
اليوم وبالرغم من مرور 1600 سنة على انعقاد مجمع داديشوع، نجد ان الوضع ليس أفضل، بالرغم من التقدم الثقافي والاجتماعي الذي حصل وشرعة حقوق الانسان والدعوات الى إحترام التنوع والتعددية.
واجهت كنيستنا الكلدانية هجمة شرسة من جهة سياسية تسعى لتحييدها والإستحواذ على ممتلكاتها وعلى مقدرات المسيحيين. وهي التي دفعت رئيس الجمهورية العراقية د. عبداللطيف رشيد في تموز عام 2023 بشكل “غير دستوري” الى سحب المرسوم الرئاسي (رقم 147 لعام 2013) والذي يُمنح بموجبه البطريرك كرئيس للكنيسة الكلدانية وضعاً قانونيا لإدارة أوقافها. وعلى إثره لجأ البطريرك الى إقليم كردستان. ثم كسبت هذه الجهة تعاطف بعض الأساقفة معها على أمل تحقيق طموحاتهم الشخصية! من المؤسف القول اننا نعيش في مجتمع يبيع المبادئ من أجل المصلحة.
البطريرك داديشوع (421 – 456)
بناءً على طلب الملك بهرام، اجتمع الأساقفة في المدائن مع وجهاء الجماعة، واختاروا داديشوع، بالأغلبية. تم تنصيبه بطريركاً عام 421، مرتدياً قبعة وردية، لكنه ما عتمّ أن لقي معارضة شديدة من قبل الذين كانوا موالين لفرابوخت ومعنا. كان عددهم 11 اُسقفاً يتزعمهم بطّي، اُسقف فارس الذي كان ينافسه على البطريركية. ولجأوا الى السلطة المدنية لعزل داديشوع، فأودعه الملك السجن. ثم أطلق سراحه الاُسقف آقاق سفير ملك الروم ثيودوسيوس فوق العادة.
لم يكفّ المعارضون عن خلق المشاكل والانشقاقات بين الجماعة، مما دفع داديشوع الى تقديم استقالته، والانزواء في دير بالحيرة مملكة المناذرة، منطقة كوفة والكربلاء والنجف.
ومن أجل إيجاد حلٍّ لهذا الإشكال المشكِّك، اجتمع 36 اُسقفاً عام 424 مع أعيان الجماعة في سينودس- مجمع بالمدائن (انه الثالث في كنيسة المشرق بعد مجمع اسحق 410 ويهبالاها 420)4. وطلبوا بإلحاح من داديشوع سحب استقالته، والعودة الى كرسيه، والاستمرار في رئاسة الكنيسة المحتاجة الى حكمته وشجاعته وحُسن ادارته5، فرضخ البطريرك لالتماسهم، وعاد الى مقرّه في كوخي منطقة بوعيثا الحالية بقرب الميكانيك- بغداد.
المجمع ومفهوم الرئاسة الكنسية: البطريرك هو بمثابة بطرس هامة الرسل في كنيسته.
انعقد المجمع” السينودس” عام 424 في الحيرة التي يسميها مركبة العرب “ܡܪܟܒܬܐ ܕܛܝܝ̈ܐ” أكد الآباء في سينودس 424 ان البطريرك هو الأب العام للكنيسة ورئيسها. وهو لهم بمثابة بطرس الرسول. هذا التأكيد على أولوية كرسي المدائن جاء بعد 14 عام من إعلان سينودس إسحق ذلك. وهو دليل على ان تَدرُّج الكنيسة المحلية نحو المركزية شيء طبيعي.
لا يحتوي سينودس داديشوع على قوانين معيَّنة، بل ينقل خطابات الأساقفة وتوسُّلاتهم بعودة داديشوع الى كرسيه، خصوصاً خطاب الاُسقف أغابيطُ المُسهَب والذي يستشهد فيه بمجمعي اسحق ويهبالاها بخصوص مكانة البطريرك قائلاً: “لا يمكن لأية قوة أن تُلغي سلطته، ملكاً كان أو اضطهاداً“. وأيضاً خطاب الاسقف هوشع “لا شكوى ضد البطريرك” الا أمام الله. وخطاب داديشوع وتفنيد شكاوى المناوئين، ثم عودته رسمياً الى كرسيه. قام بعزل (حرم) الأساقفة العاصين، بينما غفر لمن غُرِّرَ بهم وركعوا أمامه وقدَّموا له الطاعة6.
مات داديشوع عام 456 ودُفِن في الحيرة عاصمة المناذرة المسيحيين.
من الجدير بالذكر ان في زمانه لبس البطريرك “حُلّة ܡܥܦܪܐ” غفارة (عباءة)، ووضع على رأسه قبعة ملونة ܒܝܪܘܢܐ، وامسك بيده عصا الرعاية ܚܘܛܪܐ، أما ارتداء التاج فهو استخدام متأخر! دامت رئاسة داد يشوع 35 سنة.
الخلاصة – العِبرة
“السينودس هو الخيمة التي تحتضن أساقفة الكنيسة الكلدانية، والمكان الطبيعي والشرعي لمعالجة المشاكل ان وجدت، بكامل الحرية وبروح الاخوّة والصدق والصراحة. إن حضور الأساقفة السينودس هو واجب كنسي وضميري حيث تتم المناقشات بروح أخوية بعيدة عن الرغبات الشخصية، فالكنيسة لم ولن تكن حزباً، وليست موالية لأشخاص مهما كان شأنهم ومكانتهم، فالمرجع الاول والاخير هو شخص يسوع المسيح. لذا ندعو الى احترام البطريرك ومكانته بصفته اباً ورأس كنيسته واحترام قرارات السينودس”(فقرة مقتبسة من رسالة اباء سينودس 15-19 الى الأساقفة الغائبين).
يوفر السينودس فضاءً قانونياً لحل المشاكل، كما رأينا من مجمع داديشوع، ويُقدم الرؤى حول المواضيع المطروحة التي تخص الكنيسة الكلدانية وخدمتها في جميع جوانبها، من خلال النقاش وتبادل الآراء واعتماد أجندة إصلاحية وثقة بالنفس نابعة من تعليم الانجيل وارشادات المجامع المسكونية وارشاد البابوات، والمحافظة على التوازن في الأمور المهمة، وتجنب الخلاف والصور النمطية، وهكذا مع ما يتعلق بالشأن العام وحقوق الانسان والوطن والاخلاص له.
__________________________________________
1 دراستنا عن الموضوع، مجلة بين النهرين، عدد 36 لعام 1981 ص 341- 356
2 ساكو سير بطاركة كنيسة المشر بغداد 2023 ص35-36
3 سير البطاركة ص 44.
4 مجامع كنيسة المشرق Synodicon Orientale لجان باتيست شابو، بالسريانية والفرنسية باريس 1902 ص 50 وص 294. وترجمة المرحوم الاب يوسف حبي، الكسليك عام 1999 بعنوان مجامع كنيسة المشرق.
5 المجدل لماري بن سليمان، رومية 1899 ص36.
6 اعمال المجمع (الخطابات) الاب حبي مجامع كنيسة المشرق