“إن لم تعودوا كالأطفال، لا تدخلوا ملكوت السَّمَاوات”
(متّى ١٨/ ١ – ٥) تأمل الاحد ١٤ يوليو / تموز ٢٠٢٤
† المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك
في تِلْكَ السَّاعَة، دَنَا التَّلامِيذُ إلى يَسُوعَ وسألوه: “مَنْ تُراه الأكبر في مَلَكُوتِ السَّمَاوَات؟” فَدَعَا يَسُوعُ طِفْلاً، فأَقَامَهُ بينهم، وقَال: “أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنْ لَمْ تَرجعوا فَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَطْفَال، لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَات. فَمَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ وصار مِثْلَ هذَا الطِّفْلِ، فذاك هُوَ الأَكبر في مَلَكُوتِ السَّمَاوَات. ومَنْ قَبِلَ طِفْلاً مِثْلَه إكراماً لاسمي فَقَدْ قَبِلَني أنا.
الأكبر في ملكوت السموات: إن الدرب المختصرة الى الملكوت هي درب “الطفولة الروحية”، على عكس الذين يسلكون درب السلطة والتسلط على الناس بالمال والتباهي بالانجازات والأملاك المادية والدنيوية… الطفل يجمع أهل البيت حوله، لأنه مصدر فرحهم وبسمتهم، ومحور اهتمامهم في الأعياد والمناسبات السعيدة، في حضوره تتغلب العائلة على تجارب عديدة منها الإنقسام والتفرقة بين بعضهم، ونبذ الاخر. وعندما يغيب، تغيب معه الأحلام والطموح، وترى أهل البيت منقسمين، مستعدين لتدمير بعضهم في سبيل إشباع غرائزهم من خلال التسلط والتملك والتفلت الاخلاقي …
تكلم يسوع لغة الأطفال، وسلك درب الأطفال، تكلم بالامثال التي تصوّر حقائق عظيمة بلُغة سهلة يفهمها الصغار والبسطاء قبل الكبار الحكماء والعقلاء… وسلك طريق الأطفال في النقاوة والطهارة والقداسة، من خلال فعلين أساسيين: الخدمة والغفران. الطفل يخدم الآخرين بمحبةٍ وعفوية وفرحٍ، في سبيل خيرهم وسعادتهم وترقيتهم ويغفر كل إساءة ببراءة كلية.
هذا ما فعله يسوع فهل نفعل مثله؟ تكلم يسوع لغة الأطفال وسلك طريق الأطفال في الحب والتواضع والغفران والفداء. علمنا أن الأكبر هو الذي يخدم أكثر ويحب أكثر ويغفر أكثر، لا يتسلط ولا يتباهى، ولا يحقد ولا يُفرق بين الإخوة، ولا يثير النعرات. بالنسبة ليسوع هؤلاء لا يدخلون ملكوت السموات لأنهم “يشتهونَ ولا ينالون. يقْتُلُونَ ويحسُدونَ ولا يستطيعون الحُصولُ على ما يُريدون” (يعقوب ٤/ ٢).
الأطفال لا يصنعون الحروب، لا يشعلون النعرات والفتن. الأطفال لا يغتابون بعضهم البعض، لا يثرثرون ولا يتناولون سمعة بعضهم ولا يدمرون بعضهم، الأطفال يلعبون ويلهون ويفرحون، الأطفال يعشقون الحياة، لا يعرفون الحسد المميت والحقد القاتل … الأطفال لا يدمرون بعضهم في سبيل المراكز والألقاب والكراسي … الأطفال بطبيعتهم متواضعين، أما نحن الكبار فقد أضعنا “الكِبٓرِ” بسبب “الكبرياء “…
يقول القديس أغسطينوس: “المتواضعون كالصّخرة، تنزل إلى أسفل، ولكنها ثابتة وراسخة.. أما المتكبّرون فإنهم كالدخان يعلو إلى فوق ويتسع فيضمحل ويتبدد…” “الحقّ الحقّ أقول لكم: إن لم تعودوا كالأطفال، لا تدخلوا ملكوت السموات. فمن وضع نفسه وصار مثل هذا الطفل، فذاك هو الأكبر في ملكوت السموات” (متى ١٨/ ٣ – ٤) يسوع يدعونا لنتشبه بالأطفال لنعيش حياتنا الروحية، فكيف نعيش هذه الحياة ؟ وما هي المفاتيح لعيش الطفولة الروحية؟
هناك سبعة مفاتيح تساعدنا لنعيش الطفولة الروحية أضعها بين يديك أخي المؤمن لتكون قريباً من الله ومن أخيك الإنسان:
المفتاح الأول – إكتشف معموديتك:
“إن لم تعودوا كالأطفال، لن تدخلوا ملكوت السموات”، إذا رغبنا تحقيق رغبة الحُبّ، علينا العمل الجاد والدؤوب على إستعادة الحالة الروحية التي أخذناها من جرن المعمودية، حيث هناك وُلِدنا أطفالاً أنقياء بالمسيح يسوع، ولكي ننجح في هذه الحياة، علينا أن نأخذ من يد يسوع المفتاح الأول ونفتح به باب قصر قلبه لأننا سنجد فيه: التواضع والثقة والنقاوة والطهارة والشفافية بانتظارنا.
المفتاح الثاني – لا تكن مشكّكاً:
المشكّك هو عكس الإنسان المملوء ثقة ومعرفة، فعلينا تجنّب الكبرياء، لأن الطفولة الروحية لا تتفق مع نقيضها أي التكبر والنفاق.
الطفل يعرف من يحبّه ومَن لا يُحبّه، لأن براءة قلبه تكشف له ذلك، وهكذا نحن. خيرٌ لنا أن نخسر كلّ شيء مقابل ألاّ نخسر نقاوة القلب والضمير التي تفتح لنا نافذة قلب الله الطيّب والكليّ الصلاح فنشاهد حنانه من على شرفة محبّته. لا تطيق الطفولة الروحية الإحتقار، لأنه من يحتقر لم يكتشف بعد نقاوة قلبه المفتداة بدم المسيح المقدّس.
المفتاح الثالث – الغيرة على خلاص النفوس:
ميزة الطفولة الروحيّة أنها لا تكلّ ولا تملّ ابداً في البحث عن خلاص النفوس. فمن يُحبّ يغار على الآخر، ويعمل دوماً على خلاصه. لهذا تراه يغامر، يبحث عن الضائع، يفرح بلقائه، ويفرح لفرحه، ويدعو الجميع لمشاركته الفرحة. إنه مفتاح الفرح بتوبة الآخر وعودته إلى قلب الله.
المفتاح الرابع – عبقرية الحُبّ:
إنها عبقرية متّقدة بالحُب والغفران والمبادرة. ميزتها، أنها ترى الأمور بعين الله ونظره، وخاصةً كلّ ما يعيق تقدّم الإنسان في حياته الروحيّة، لا سيّما ما تضعه الخطيئة من عوائق فتسارع تلك العبقرية إلى تحصين الشركة الأخوية بالنصح والإرشاد والدعم والعزاء وقول الحقّ، بهدف الخلاص. وإذا صُدّت الطفولة الروحية من قِبل الآخرين، تُسارع بحثاً في إيجاد طرائق بديلة لخلاص النفوس. لهذا أعطى الرب المفتاح الرابع للكهنة الذين يربطون به الخطيئة بسلاسل رحمة الربّ، ويحلّون الخاطئ التائب بقوة القائم من الموت.
المفتاح الخامس – حياة الشركة:
أطفال يسوع الصغار، هم الذين تربطهم به أواصر الصداقة الدائمة. هم كالأطفال الذين يبنون صداقاتهم رويداً رويداً، يتشاركون في الألعاب والنزهات والأخبار والأفراح والأحزان.. يُعلّمنا المفتاح الخامس أهميّة المشاركة والفرح. وحيثما تُعاش الطفولة الروحية هناك يكون يسوع حاضراً، وهناك يكون الحُب والفرح والسلام والثقة والطمأنينة.
المفتاح السادس – لا تتعب من الغفران:
لا يخاف الطفل من مسامحة والديه لأنه يحبّهم، ولا يخاف من الاقتراب منهم لأنه يثق بهم، وهم بدورهم يبادلونه المشاعر نفسها. فمهما فعل تبقى محبّتهم له متّقدة، لأن الذي يريد أن يربّي أولاده على ثقة الغفران، عليه أن لا يتعب أبداً من إعطاء الفرص للمسامحة والمصالحة، لأن الهدف أسمى من التفاصيل. وهكذا حال الطفولة الروحيّة لا تتعب من الغفران ولا من إعطاء الفرص للغفران.
المفتاح السابع – كرَم الحُب:
بقدر ما تحبّ بالقدر عينه تكون كريماً مع من يُحبّك، فيبادلك الآخر بكرم أكثر منه. وهكذا هي الحال مع الله “المحبّة”. مهما ارتكبنا من خطايا يبقى وفيّاً ويحبّنا وينتظر توبتنا، لأنه كريم في عطاياه وكثير الرحمة والرأفة تجاه أولاده الصغار (مَثَل الابن الضال، لوقا ١٥/ ١١ – ٣٢)
لا ترضى الطفولة الروحيّة بقساوة القلب، لأن القساوة تتناقض مع مبدأ الليونة والبراءة والعفوية والإنفتاح واللقاء والحوار والتواصل والإصلاح. فالذي يظلّ على قساوته لن يتذوّق معنى السلام الداخلي ولا حقيقة غفران الله الآب، فهو يشبه الأرض القاحلة اليابسة.
يقول القديس أوغسطينوس: “لمتواضعون كالصّخرة، تنزل إلى أسفل، ولكنها ثابتة وراسخة… أما المتكبّرون فإنهم كالدخان يعلو إلى فوق ويتسع فيضمحل ويتبدد” …