تأمل في سرّ الكهنوت ورسالة الكاهن
المطران المتقاعد رمزي كرمو
اسطنبول 28 حزيران 2024
قرأنا أخيراً على الموقع البطريركي الألكتروني خبر رسامة كهنة جدد لكنيستنا الكلدانية في العراق وخارجه. لنشكر الربّ من أعماق قلبنا على هذا النبأ المفرح الذي يدل على أن الله حاضر في كنيسته مفيضاً عليها نِعَمِه الغزيرة وبركاته الكثيرة ومرسلاً لها فَعَلة لكي يستثمروا فيها الوزنات التي وهَبهم إيّاها.
إن وزنة الكهنوت المقدَّس التي يهبها الله لمن يشاء، تدعونا الى أن نتأمل عميقاً فى حياة ربنا والهنا يسوع المسيح، الكاهن الأزلي، والذي يجب على كل كاهن أن يقتدي به ويعكسه في حياته. هذا ما يدعونا إليه بولس الرسول، مبشّر الأمم وشهيد الحب الألهي: “فلْيَكُنْ فيما بَينَكُمُ الشُّعورُ الَّذي هو أَيضاً في المَسيحِ يَسوع. هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذاً صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان، فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب” (فيلبي 2/ 5 – 8).
إن نعمة الرسامة الكهنوتية التي تجعل من الكاهن صورة للمسيح الحيّ، يجب أن تخلق فيه حباً عارماً وشوقاً كبيراً للتشبّه به، بحيث يقدر أن يقول بكل تواضع: “من رآني رأى المسيح ومن سمِعَني سمِعه وأنا وهو واحد” (يوحنا 14/ 9 – 11) و (غلاطية 2/ 19 – 20). .نعم، إن حياة الكاهن ما هي إلا إمتداد حقيقي لحياة الكاهن الأعظم يسوع المسيح، الذي عاش مثلنا في كل شيئ عدا الخطيئة، لنقرأ ونتأمل: “كذلك المسيح لم ينتحل المجد فيجعل نفسه عظيم كهنة، بل تلقى هذا المجد من الذي قال له: أنت ابني وأنا اليوم ولدُتكَ. وقال في مكان آخر أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق. وهو الذي في أيام حياته البشرية رفع الدعاء والابتهال بصراخ شديد ودموع كثيرة إلى الذي بوسعه أن يخلصه من الموت. فاستجيب لتقواه وتعلم الطاعة وهو الأبن بما عانى من الألم ولما بلغ الى الكمال، صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي، لأن الله أعلنه عظيم الكهنة على رتبة ملكيصادق” (عبرانيين 5/ 5 – 10).
إن بذرة الكهنوت التي زُرِعَت في حياة الكاهن يوم رسامته المقدسة، لا تثمر ثمراً جيداً وكثيراً إلا إذا تجذَّرت تجذّراً عميقاً في شخص يسوع المسيح الحي وتجعل من رسالته الكهنوتية صورة حية وملموسة لرسالته الخلاصية. لنسمع ونتأمل بما يقوله ربّنا ومخلّصنا له كل المجد والاكرام والسجود بهذا الخصوص: “أَنا الكَرْمةُ وأَنتُمُ الأَغصان. فمَن ثَبَتَ فيَّ وثَبَتُّ فيه فَذاكَ الَّذي يُثمِرُ ثَمَراً كثيراً لأَنَّكُم، بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً. مَن لا يَثْبُتْ فيَّ يُلْقَ كالغُصنِ إِلى الخارِجِ فَيَيْبَس فيَجمَعونَ الأَغْصان وَيُلْقونَها في النَّارِ فَتَشتَعِل. إِذا ثَبَتُّم فيَّ وثَبَتَ كَلامي فيكُم فَاسأَلوا ما شِئتُم يَكُنْ لَكم. أَلا إِنَّ ما يُمَجَّدُ بِه أَبي أن تُثمِروا ثمراً كثيراً وتكونوا لي تلاميذ” (يوحنا 15/ 5 – 8). “كما أرسَلَني الأب أرسلكُم أنا أيضاً” (يوحنا 20/ 21). إن هذه الآيات تؤكد لنا، بأن من دون الثبات و الإتحاد بالرب يسوع، تفقد رسالتنا الكهنوتية طعمها وقدرتها على جذب الناس إلى نور الأيمان وفرح الأنجيل. “أنتُم مِلحُ الأَرض، فإِذا فَسَدَ المِلْح، فأيُّ شَيءٍ يُمَلِّحُه؟ إِنَّه لا يَصلُحُ بَعدَ ذلك إِلاَّ لأَنْ يُطرَحَ في خارِجِ الدَّار فَيَدوسَه النَّاس. أَنتُم نورُ العالَم… هكذا فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَاوات” (متى 5/ 13 – 16).
إن خبرة الكهنة القديسين تعلمنا، بأنه من غير الممكن أن تتجذر حياة الكاهن ورسالته في حياة ورسالة ربنا يسوع المسيح، الكاهن الأعظم، إلا إذا تغذت بالصلاة اليومية والتأمل في كلام الله الحيّ. الصلاة النابعة من القلب تمنح نعمة الاتحاد بالله الذي يخصب رسالة الكاهن ويثمرها. هذا يعني أنه من دون الصلاة، تبقى نشاطات الكاهن وفعالياته عقيمة ومن دون جدوى. إن الأمانة للدعوة والخدمة الكهنوتية تتطلب المثابرة على الصلاة لكي يعيش الكاهن رسالته بالفرح والرجاء رغم التحديات الكثيرة التي يواجهها. إن الاحتفال بالذبيحة الإلهية يومياً، هو مَطلَب أساسي وضروري من غير الممكن التغاضي عنه، يذكّرنا كتاب التعليم المسيحى للكنيسة الكاثوليكية، بأن سرّ القربان المقدس هو “مصدر وقمة الحياة المسيحية، بواسطته يتحد الكاهن اتحاداً حقيقياً بيسوع المسيح الكاهن والذبيحة. “من أكلَ جسَدي وشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه” (يوحنا 6/ 56). على ضوء ما تقدم، يمكننا القول: بأن الصلاة يجب أن تشكّل اولى القناعات التي يجب على الكاهن أن يَبني عليها حياته الكهنوتية ورسالته الراعوية والروحية، وذلك لأنها تذكّرنا بما هو جوهري لحياتنا وتنجينا من خطر الانشغال وتضييع الوقت بما هو ثانوي وغير ضروري. ” مَرتا، مَرتا، إِنَّكِ في هَمٍّ وارتِباكٍ بِأُمورٍ كَثيرَة، مع أَنَّ الحاجَةَ إِلى أَمرٍ واحِد. فَقدِ اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأّفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها” (لوقا 10/ 41 – 42).
أما القناعة الثانية التي يجب أن يكتسبها ويختبرها الكاهن وهو يمارس عمله الكهنوتي، فهي خبرة الألم الرسولي. لا رسالة كهنوتية مثمرة من دون اختبار الألم الرسولي، أقصد بالألم الرسولي، ذلك الألم الذي يتحمله الكاهن من أجل أن يبقى أميناً على دعوته ويشهد شهادة حسنة ليسوع المسيح الحي. ربنا ومعلمنا، له كل المجد والاكرام والسجود، علَّمنا بكلامه لكنه خلَّصنا بآلامه. إنه كان يتكلم بوضوح عن آلامه وموته أمام تلاميذه لكي يهيئهم للرسالة التي كانت تنتظرهم. “وقال: يَجِبُ على ابنِ الإِنسانِ أَن يُعانِيَ آلاماً شَديدة، وأَن يَرذُلَه الشُّيوخُ وعُظَماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَلَ ويقومَ في اليَومِ الثَّالِث” (لوقا 9/ 22).
نقرأ في الإنجيل المقدس، بأن الهدف من سرّ التجسد وسرّ الفداء كان، أن يشارك المسيح، من خلال موته وقيامته، كل البشرية بحياته الإلهية والسعادة الأبدية، هذا ما صرَّح به: “أَمَّا أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم.. قُلتُ لَكم هذهِ الأشياءَ لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامّاً” (يوحنا 10/ 10 و 15/ 11). لكن، لكي يحقق يسوع هذا الهدف السامي كان عليه أن يتحمل آلام الصليب حتى الموت، ليكشف لنا حبه الصادق والكامل. “لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه” (يوحنا 15/ 13). إن ما يميز الحُبّ الصادق من الحُبّ الكاذب هو التضحية وبذل الذات في سبيل الآخرين. إن جمال رسالة يسوع الخلاصية يتجلى على الصليب حيث الحب بلغ ذروته. أما القديس بولس، مبشّر الأمم وشهيد الحب الألهي، فإن حياته الرسولية كانت موسومة بطابع الألم الرسولي والذي كان سببا في أن تثمر رسالته ثمرا كثيرا لمجد الله وتبشير الأمم بإنجيل الخلاص. في تأمله عن الألم الرسولي هذا ما يقوله: “يَسُرُّني الآنَ ما أُعاني لأَجلِكم فأُتِمُّ في جَسَدِي ما نَقَصَ مِن شَدائِدِ المسيح في سَبيلِ جَسَدِه الَّذي هو الكَنيسة” (قولسي 1/ 24) وفي رسالته الى أهل غلاطية يقول: “فإني أحمِلُ في جسدي سِمات يسوع” (6/ 17). إن ما عاناه رسول الأمم من آلام في سبيل البقاء أميناً على دعوته ورسالته التبشيرية، جعله أن يختبر في حياته فرح حضور يسوع المسيح الذي مات وقام . بهذا المعنى نسمعه يقول: “فالحياة عندي هي المسيح، والموت ربح” (فيلبي 1/ 21). وفي رسالته الى أهل غلاطية يقول: “وقد صُلِبتُ مع المسيح. فما أَنا أَحيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحيا فِيَّ” (2/ 19 – 20). إن الألم الرسولي، مثل شهادة الدم، هو نعمة كبيرة علينا ان نطلبها بواسطة الصلاة.
أما القناعة الثالثة التي يجب أن يختبرها الكاهن في حياته ومن خلال ممارسته لرسالته المقدسة، فهي الثقة المطلقة واللامحدودة برحمة الله الواسعة ومحبته اللامتناهية. حينما نتلوا صلاة “أبانا الذي” نطلب فيها من ابينا السماوي أن يغفر لنا خطايانا، أي نعترف بكوننا خطأة وبحاجة إلى نعمة الغفران. إن الله، ينبوع المحبة والرحمة، يفرح بتوبة الخاطئ الذي يعود إليه بقلب تائب (إنجيل لوقا فصل 15). لقد استهل ربنا والهنا يسوع المسيح كرازته بالدعوة إلى التوبة قائلاً:
“توبوا قد اقتربَ ملكوت السماوات” (متى 4/ 17). وكذلك إنه يقول: “ما جئتُ لأدعو الأبرار بل الخاطئين” (متى 9/ 13). أما يوحنا الرسول فيكتب بهذا الخصوص: “إِذا قُلْنا: إِنَّنا بِلا خطيئة ضَلَّلْنا أَنفُسَنا ولَم يَكُنِ الحقُّ فينا. وإِذا اعتَرَفْنا بِخَطايانا فإِنَّه أَمينٌ بارّ يَغفِرُ لَنا خَطايانا وُيطَهِّرُنا مِن كُلِّ إِثْم” (رسالة يوحنا الأولى 1/ 8 – 10). أما الرسول بولس فيقول: “جميع الناس قد خطئوا فحرموا مجد الله ولكنهم تبرأوا مجانا بنعمته، بحكم الفداء الذي تم في المسيح يسوع”
ويقول أيضاً: “حيث كثرت الخطيئة فاضت النعمة” (رومة 3/ 23 – 24 و 5/ 20). غالباً ما، سقوطنا في التجربة وارتكابنا للخطيئة يقوداننا إلى اليأس وقطع الأمل، متناسين بأن رحمة الله ومحبته لنا أقوى بكثير من ضعفنا وخطيئتنا . إن ربنا والهنا يسوع المسيح، له كل المجد والإكرام والسجود، أظهر حباً خاصاً للخطأة وأعاد إليهم الأمل والرجاء في الحياة، إن الإنجيل المقدس يكلمنا عن أشخاص كثيرين إختبروا الخطيئة في حياتهم لكن لقائهم بيسوع كان مصدرا لإختبار نعمته ومحبته وتغيير حياتهم. (لوقا 7/ 36 – 50 ومتى 9/ 9 – 13 ولوقا 19/ 1 – 10 ويوحنا 8/ 53 – 11). كذلك لنتذكر ونتأمل في المزمور (51) المعروف بمزمور التوبة، والذي فيه أظهر داود الملك توبته وندامته إثر إرتكابه خطيئتي الزنا والقتل، لكي نزداد ثقة وايمانا بمحبة الله لنا رغم خطايانا. لنقرأ بعض آيات هذا المزمور: “إرحمني يا الله بحسبِ رحمتك وبكثرة رأفتكَ أمحُ مآثمي. اغسلني كثيراً من إثمي ومن خطيئتي طهرني، فإني عالمٌ بمعاصي وخطيئتي أمامي في كلِّ حين. إليكَ وحدكَ خطئتٌ والشرَّ أمامَ عينيكَ صنعتُ. قلباً طاهراً أخلُق فيَّ يا الله وروحاً ثابتاً جدّد في باطني. من أمامِ وجهك لا تطرحني وروحك القدوس لا تنزِعه مني” (الآيات 3-6 و 12- 13). إن موقف يسوع تجاه الخطأة يدعونا إلى أن لا ننظر إلى الخطيئة التي نرتكبها نظرة سلبية، سوداء وقاتمة، تقودنا الى اليأس والاحباط والكآبة، بل نظرة تجعلنا أن نعترف بضعفنا ونقبله بكل تواضع ونفتح قلبنا لنعمة التوبة التي هي دائما في متناول يدنا. إن يسوع راعينا الصالح دائما يبحث عنا ويسر بوجودنا، لذلك لا يحق لنا أبدا أن نقطع الأمل من محبته ورحمته، هكذا عمل هو خطيئة ضد الروح القدس التي لا تغفر.
طوبى للكاهن الذي يصلي ويتألم ويضع ثقته بمحبة الله ورحمته، إنه يختبر الفرح والسلام ويشارك أبناء وبنات رعيته بهذه الخبرة الجميلة. أيضاً، لنُصلِّ ونطلب من الروح القدس، ينبوع المواهب المتنوعة ومصدر الخيرات الكثيرة، أن يكشف لنا أكثر فأكثر سموّ الدعوة الكهنوتية وقدسيتها وجمال رسالتها وضرورة عيشها حسب تعاليم الأنجيل المقدس لكيما تثمر ثمراً كثيراً لمجد الله ولمجيء ملكوته.
أرجو من الذين يقرأون هذه الأسطر أن يصلّوا من أجلي
لكي أعيش ما تبقى لي من الحياة الأرضية بالإيمان والرجاء والمحبة وشهادة الحياة حتى النهاية
مع الشكر
ولنبق متحدين بالصلاة، رباط المحبة الذي لا ينقطع