قصيدة لنرساي (القرن الخامس) عن انهيار القيم والاخلاق!
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
جذب انتباهي، وأنا أعدّ كتاباً عن لاهوت كنيسة المشرق، هذا المقال ܡܐܡܪܐ الشعري لنرساي الملفان الذي يدعو فيه الى البحث عن الخير، وعمل الخير، لان للخير وقعٌ كبيرٌ على المجتمع. هذا الرجاء يحثّ كلَّ واحدٍ مِنَّا على عمل الخير والاستمرار في مسيرة المحبّة والعطاء بصدق وحماسة. إرث آبائنا الاوائل الروحي إرث قديم، لكنه جديد دائماً1.
من هو نرساي الملفان؟
تُشير معظم المصادر، الى أن نرساي أبصرَ النور في قرية “عين دلبي” قرب مدينة دهوك، في إقليم كردستان العراق، وعلى الأرجح بين عام 412 – 413م. ولما كبُرَ التحق بربان “معلم” القرية ليتعلم القراءة السريانية – الكلدانية والكتابة. بعده قصَدَ عمَّه عمانوئيل، رئيس دير كفر ماري في مقاطعة بازبدى، الذي أرسله الى مدرسة الرها الشهيرة لاستكمال تحصيله العلمي. وبعد تخرّجه ترأس المدرسة. وعندما أمر زينون الامبراطور الروماني بغلق المدرسة عام 489م قصَدَ نرساي واساتذة المدرسة وطلابها مدينة نصيبين القريبة حيث استقبلهم اُسقفها برصوما. واسَّسوا فيها “اكاديمية نصيبين” الشهيرة، ووضعوا لها نظاماً جديداً. ساس نرساي الاكاديمية، التي اعطت كنيسة المشرق أبرز شخصياتها الفكرية والإدارية، الى سنة وفاته عام 502 أو مطلع عام 503. كتب نرساي مقالات وتسابيح ومداريش وتراتيل كثيرة، شعراً ونثراً، واليه يُنسب البحر الإثنا عشري من أوزان الشعر السرياني، المؤلف من 12 مقطعاً صوتياً.
ظروف كتابة المقالة
ما دفع نرساي الى كتابة هذه المقالة بابداع، ليس توتر العلاقة الشخصية بينه وبين مطران نصيبين” برصوما بسبب زواجه من ماموي2، كما ذهبَ الأب البير أبونا، اذ كان مسموحاً زواج رجال الدين بكافة مراتبهم آنذاك، حتى القرن السابع، ومنهم البطريرك ايشوعياب الثاني (†646)3.
بحسب قراءتي للمقالة، اعتقد ان سبب الكتابة هي: الانقسامات في الكنيسة، وتهاون رجال الدين في تعليم الأخلاق وتنشئة المؤمنين روحيّاً، والبحث عن المال (الفساد)، والتسابق على على المناصب. هذه حقائق مؤلمة.
اليوم نعيش وضعاً مشابهاً لزمن نرساي، لكنه أكثر انتشاراً وتعقيداً: وضع دولي غير مستقر، بسبب التحولات المعاصرة التي تتقاطع مع الأخلاق والقيم والروحانية: التحول الاقتصادي، والتهافت وراء المال (الفساد)، وصناعة الاسلحة المدمرة، وحروب عموماً هي ضد الابرياء، وتشريع الإجهاض، والقتل الرحيم والطلاق، والمثليّة وتغيير الجنس، وتلوث البيئة بفعل الإنسان والأوبئة والكوارث الطبيعية وانقسامات الكنائس وشكوك في تصرفات بعض رجال الدين. اننا نشهد فعلا حالة من انهيار القيم والأخلاقه والاتفكك الاسري والمجتمعي.
المقالة
المقالة منشورة في المجلد الأول لميامر نرساي (رقم 13 ص 210 -243)4. عنوانها “مسكين الزمان الذي استقبله” وجاء فيه “انه يُزلزل الحياة الروحية. بئس السلوك الذي يتبعه الارضيون، انه يعقد السبيل جداً أمام من يسعى للعيش الجميل. الظلام دامس أمام تمييز النور، إذْ لا يوجد من يكلّم التافهين، بكلمة الصدق. واهنٌ بناء الإيمان الذي يحتضن الجميع، اذ لا يوجد من يعلّم طهارة النفس الجميلة. نادرٌ الحبّ الذي يدفيء أكثر من الموقد. الغضب يغلي الواحد تجاه الآخر. الكل يهرول وراء الأرضيات بجشع. إستبدلوا غنى الامور المجيدة بامور حقيرة. وتحالفوا مع الفاسدين سراً وتاجروا معهم… الزواج بحسب تصميم الخالق مبتلي، لان كل واحد يركض وراء الدعارة. يُهيمن النفاق والقتل والزنى. في قلبهم الغش وفي شفاههم الكذب. لا أحد يتأمل بكلمات الرجاء في التطويبات. محبة المال أوقعت النفس مثل الحالوب، واسقطت اوراق الإيمان. هناك من يعلّم للشهرة وليس عن حب. يعلّم نظرياً وهو بعيدٌ عملياً. تركوا الوصايا التي ترفع من كل هذه “الأرضيات”. لا يوجد شعب يبغض الكلام عن الروحانيات مثلنا، وينقسم حول الأمور العتيدة”
يتكلم نرساي بإسهاب عن الحسَد، والغيرة، والسرقة، والكذب، والافتراء، والكبرياء، والبحث عن السلطة والشهرة والشراهة، والغضب والعنف والثأر، والجهل (الذي يصفه بالطوفان) والتجديف والشتائم.
ونجد صدىً لوصف نرساي وبنفس الكلمات، في ترتيلة منشورة في الحوذرا5.
“يا له من جيل مؤسف ليس فيه بار. بين الكهنة حقد وكذب، والشمامسة الرشوة، وفي الكنيسة اضطرابات، وفي السوق مكائد. بين الأثرياء خطف وجشع، وبين القضاة ظلمٌ، والسلاطين طمع، يا رب اغفر لنا، وأمنحنا قلباً طاهراً وارحمنا”.
لمعالجة هذا الواقع المرير بشكل مباشر، يدعو نرساي للتوبة والعودة الى تعليم المسيح الذي نحصل فيه على الخلاص والتوازن والانسجام والكرامة والسلام. هذا رجاء نرساي وهو رجاؤنا أيضاّ.
لذلك في ترتيلة له جميلة نرتلها في صلاة نصف النهار ܡܓܗܝ الاثنين الخامس من الصوم الكبير يقول: “يا رب إكلأ الإيمان في الكنيسة المضطهدة بسبب الخطايا: فالوعّاظ يقتلون، وأسفار (كتب) الكهنة تُخفى، لأنهم يعِظون ويعلّمون باستقامة كلمة الحق بحب ولياقة”6.
في ختام مقاله يكتب نرساي:
“كتبت هذه الكلمات كخاطئ أمام الديّان عساه يسبغ عليّ مراحمه يوم محاسبتي على ذنوبي..”
______
1 آباؤنا السريان، دار المشرق، بيروت 2012 ص ص 117-125
2 الاب البير ابونا، ادب اللغة الارامية، دار المشرق بيروت ط2 1996 ص 122.
3 ساكو، البطريرك ايشوعياب الجدالي، بغداد 2014 ص 5 ، هامش 10
4 ميامر نرساي نشرها الفونس منكنا بمجلدية عام 1995 في مطبعة الاباء الدومنيكان بالموصل.
5 حوذرا الطبعة الجديدة ص 112
6 حوذرا الطبعة الجديدة ص244