ساكو الكاردينال العراقي .. سنرجع يوماً
رياض شابا
“ سنرجع يوما “ ، ينساب الصوت الملائكي ، هادئا ، جميلا ، غامضا ، احسسته حزينا بعض الشئ ، “ تنعشه “ رائحة قهوة سمراء تعدها زوجتي بداية كل نهار ، تختارها من بين اصناف بن اعتدنا ابتياعه من “ دكان “ ابو محمد “القريب من حينا . افكار عدة تعكر صفو خلوتي ، ليس اولها اخبار الوطن الام ، و اخرها استنشاق دخان الغابات المشتعلة الذي يمنح السماء لونا رماديا ، يذكرني بمزاجي “ المركب “ لا ابيض و لا اسود ، و انا اتصبب عرقا و اكتب اول مادة طويلة لي في جريدة “الصباح “ البغدادية بمقرها المؤقت داخل ذلك البيت التراثي في شارع حيفا ، اثر عودتي الى الصحافة صيف 2003 ، الكهرباء شبه غائبة ، و دوي الرصاص بين متواصل و متقطع ، يتناغم مع منبهات مركبات الاسعاف او الشرطة او غيرهما ، و هدير السيارات المصفحة ، و الشارع بين ترقب و تساؤل ، و الناس يفضلون العودة الى منازلهم مبكرين .و لكن ، لا باس ، كل شيء سيصبح على ما يرام ، الامر يتعلق بفواصل زمنية ، مسالة وقت فقط “ بالتاكيد “ ، هذا ما قالوه ، فان “ بعد العسر يسرا “ ، شدة عابرة و تزول ، و التغيير بات حقيقة ، و ما كنت اكتبه يتعلق بانتظار العراقيين لقطار الحكومة الوطنية ، و الديموقراطية التي ستشرق شمسها اخيرا . في تلك الاجواء تلقيت اتصالا من شقيقي عصام ، المهندس المعماري الناجح خريج بغداد ، يسالني البحث يشكل جاد عن قطعة ارض قريبة، يشيد عليها بيتا كبيرا فور عودته كي يعوض ما فاته من سنوات الغربة ،
و بالطريقة نفسها فكر عراقيون كثيرون ، مادامت بلادنا ستنمو و تتقدم بقفزات سريعة تجعلها تضاهي نجمة من نجوم علم “ القوات المحررة “ . هذا ما قالوه ،
لم ننتظر طويلا حتى اكتشفنا سذاجة ما فكرنا فيه و معنا الكثيرون ، عندما صدقوا و حلموا و تاملوا ، اذ سرعان ما اوضح الزمن باسابيعه و شهوره ، بل بايامه الحقيقة التي كانت امر من الحنظل ، و افتك من السم .
و لست هنا بصدد التذكير بما حصل و يحصل ، عندما بدا اليائسون ، كل يهاجر على طريقته ، لست في وارد ما جرى و يجري للذين اختاروا المنافي ، لكنني اتذكر اليوم كلاما لكاتب لا يحضرني اسمه للاسف ، و ارفع له القبعة ما حييت عندما قال على بلادنا ان تفتخر كون احد ابنائها كاردينال عراقي ،و كان ذلك في تشرين الثاني2007 و كان يقصد الكاردينال البطريرك الراحل عمانوئيل دلي .
كاردينال عراقي
دار الزمان دورته و اصبح عندنا في مايس 2018 كاردينالا عراقيا ثالثا هو البطريرك لويس روفائيل الاول ساكو “ كان الكاردينال العراقي الاول البطريرك الراحل اغناطيوس جبرائيل تبوني الذي صار كاردينالا على العراق و الشرق الاوسط عام 1935 “ .
و عندما اختير ساكو بطريركا على كلدان العراق والعالم في مطلع 2013 قال لبابا الفاتيكان في روما ، مكتسيا بلباسه الاحمر ، كلمات بالايطالية عبر فيها عن شعوره بالرهبة و جسامة الرسالة و المسؤولية . ولد ساكو في زاخو بكردستان التي احبها مثلما احب العراق كله و نادى بالمواطنة والدولة المدنية لكل العراقيين و تمنى عليهم جميعا و عمل ما بوسعه كي لايتركوا ارض الاباء و الاجداد ، سواء كانوا مسيحيين او غيرهم ، احبها مثلما احب موصل التاريخ و الحضارة و التعايش ، و عشق ربيعيها ، مثلما ودع كركوك و اهلها بالدموع ، قبل ان يستقر في مقره ببغداد قلب العراق النابض . و في حفل تنصيبه بكاتدرائية القديس يوسف في الكرادة الشرقية _ داخل و بحضور رسمي و شعبي مشهود ، دعا المسيحيين الا يهاجروا : لا تخافوا . و اضاف ارتجالا .. يقولون المسلمين متعصبين و “ نص الكنيسة مسلمين “ .، و ضج المكان بضحكات الجميع مسيحيين و مسلمين و غيرهم. لا اريد التحدث حول ماجرى منذ تنصيبه و قبل تنصيبه و حتى يومنا هذا ، فالكل يعرف ما شهده العراق و ما يشهده اليوم ، فقد غادر الكاردينال بغداد التي لم تعد “ دار السلام “حاملا صليبه و عصاه و جبالا من الهموم ربما ، ليحط في اربيل كردستان اتيا من تركيا بعد ان تراس تنصيب مطران كلداني جديد هناك ،
احداث متسارعة
و في غضون هذه المدة التي شهدت احداثا متسارعة ، قرات و ما اكثر ما قرات من بيانات و مقالات و تعليقات ، الكثير منها اشبه بالاستغاثة ، اذ ان ما تبقى من المسيحيين الان يشكل ربع عديدهم قبل عقدين ، و ربما اقل ، مع تحذيرات جادة من احتمال خلو البلاد منهم ، فما يجري هو جفاف مخيف لركن جميل في حديقة غناء ، تنهش زهورها اسراب من القوارض ، تاتي على ما تبقى من صور التاخي و التعايش بين سكان ارض ما بين النهرين . و قرات في اكثر من مكان و موقع من صار يسمي ساكو بالكاردينال الكردستاني ، و هو كذلك صدقا ، فان العراق يحيا بكردستان ، و كردستان هي العراق ، و من هناك اطلق صرخته الاخيرة ، ملوحا بغصن الزيتون ، في انتظار ان يصح الصحيح .