يسوع يستقبل الموت وهو يصلي
المطران المتقاعد رمزي كرمو أسطنبول، 20 شباط 2024
لازَمَت الصلاة يسوع طيلة حياته الزمنية، نراه يرافق والديه وهو حديث السن الى الهيكل ليُصلّي ويشترك في مراسيم الأعياد الدينية، كما جاء في إنجيل لوقا: “وكانَ أَبَواهُ يَذهَبانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلى أُورَشَليمَ في عيدِ الفِصْح. فلَمَّا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَة، صَعِدوا إِلَيها جَرْياً على السُّنَّةِ في العيد” (2/ 41 – 42). كذلك نراه يُصلّي ويصوم قبل أن يُباشر رسالته الخلاصية، حيث يَختلي أربعين يوماً في البريّة (متى 4/ 1 – 11)، وأثناء قيامه بعمله الرسولي والتبشيري خصَّصَ أوقاتاً كثيرة للصلاة (لوقا 5 / 16 و 6/ 12 و 9/ 18 و10/ 21 و 11/ 1 …).
إن إلتزام يسوع بالصلاة دلالة على أنه كان يعتبرها جزءاً أساسياً من حياته ورسالته. بواسطة الصلاة أيضاً إستعد يسوع لمجابهة الموت الذي كان في إنتظاره. كلّنا نعلم بأن الموت هو حَدَث مفزع ومخيف ولا نريد أن نتذكره ونعمل كلّ ما في وسعنا لإبعاده عنّا. لكن ربّنا وإلهنا يسوع المسيح، له كل المجد والإكرام والسجود، لم يكن يتردد في ذكر موته أمام تلاميذه، هذا ما نقرأه في الإنجيل المقدس. “وقال: يَجِبُ على ابنِ الإِنسانِ أَن يُعانِيَ آلاماً شَديدة، وأَن يَرذُلَه الشُّيوخُ وعُظَماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَلَ ويقومَ في اليَومِ الثَّالِث” (لوقا 9/ 22 و 18/ 31 – 33 و متى 12/ 40). إن ذكر يسوع لموته عدة مرات هو تعبير عن ثقته المطلقة بأن موته يشكّل مرحلة مهمة وحاسمة من مراحل تدبير الله الخلاصي، وذلك لكي يتم ما قيل في كتب الأنبياء. “في تلكَ السَّاعة قالَ يسوعُ لِلجُموع: أَعلى لِصٍّ خَرَجتُم تَحمِلونَ السُّيوفَ والعِصِيَّ لِتَقبِضوا عليَّ؟ كُنتُ كُلَّ يَومٍ أَجلِسُ في الهيكلِ أُعلِّم، فَلم تُمسِكوني. وإِنَّما حَدَثَ ذلك كُلُّه لِتَتِمَّ كُتُبُ الأَنبِياء” (متى 26/ 55 – 56).
لكن يسوع هيأ نفسه للموت من خلال مواظَبته على الصلاة. حينما شَعَر بأن ساعته قد إقتربت، صلى بحرارة وهو يشعر بالحزن والكآبة. هكذا نقرأ في إنجيل متى. “ثُمَّ جاءَ يسوعُ معَهم إِلى ضَيعَةٍ يُقالُ لها جَتسَمانِيَّة، فقالَ لِلتَّلاميذ: أُمكُثوا هُنا، رَيثَما أَمضي وأُصَلِّي هُناك. ثُمَّ أَبعَدَ قَليلاً وسقَطَ على وَجهِه يُصلِّي فيقول: يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس، ولكن لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء” (26 / 36 – 45).
إن شجاعة يسوع في قبول الموت عملاً بإرادة أبيه السماوي، كانت ثمرة صلاته المستمرة، بواسطتها اكتشف بأن الموت ليس آخر حدث سوف يختبره في حياته والقبر ليس أخر مكان سوف يوضع فيه، بل إنه سوف يقوم ويجلس ممجداً عن يمين الآب السماوي، لذلك نراه مخاطباً أباه قبل موته وهو يقول: “يا أَبتِ، قد أَتَتِ السَّاعة: مَجِّدِ ابنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابنُكَ بِما أَولَيتَهُ مِن سُلطانٍ على جَميعِ البَشَر لِيَهَبَ الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ لِجَميعِ الَّذينَ وهبتَهم له..” (يوحنا 17 / 1 – 2).
إن موقف يسوع أمام الموت واستعداده له بالصلاة، يدعونا إلى أن نجدّد ونقوّي إيماننا بالقيامة، وبصورة خاصة يدعونا إلى أن نصلي كي يمنّ الله علينا بنعمة الموت الصالح، أي بموت نمجّده بواسطته ونشهَد له شهادة حسنة لكي يؤمن به الذين لا يؤمنون. هذا ما حدث ليسوع حينما مات، إذ أصبح موته سبباً في أن يؤمن به قائد المائة الوثني الذي إعترف وقال: “كانَ هذا الرَّجُلُ ابنَ اللهِ حَقّاً!” (مرقس 15 / 39).
كذلك، موت الشماس إسطيفانوس، شهيد المسيحية الأول، كان موتاً مدهشاً وعجيباً، إذ يصفه لنا لوقا في سفر أعمال الرسل بهذا الشكل: “فحَدَّقَ إِلى السَّماء وهُو مُمتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، فرأَى مَجدَ الله ويسوعَ قائِماً عن يَمينِ الله” (7/ 55)، وأيضا نراه يُصلّي وهو يُرجَم: “رَبِّ يسوع، تَقبَّلْ روحي… يا ربّ، لا تَحسُبْ علَيهم هذهِ الخَطيئَة. وما إِن قالَ هذا حتَّى رَقَد” (7/ 59 – 60). صلاة الشهيد اسطيفانوس تذكّرنا، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، بصلاة يسوع على الصليب وهو يموت: (لوقا 23/ 34 و 46).
هكذا كان أيضاً موت شهداء كنيسة المشرق الأبرار الذين كانوا يستشهدون وهم يُصلّون ويمجّدون الله، واثقين كل الثقة، بأن موتهم سيؤول إلى مجد القيامة والحياة الأبدية. (لاخو مارا دخلا مودينن ولاخ ايشوع مشيحا مشبحينن دأتو منحمانا دبغرين وأتو باروقا دنوشاثن)، وكما جاء أيضاً في تراتيل الشهداء التي نرتّلها أثناء صلاة الصباح والمساء كل يوم.
يذكر التاريخ، أنه في بعض الأحيان، موت هؤلاء الأبطال الشهداء كان سبباً في إهتداء معذّبيهم وأعداءهم إلى الإيمان بالمسيح ونيل نعمة الخلاص. إن صلاة يسوع وصلاة أسطيفانوس وصلاة الشهداء أثناء موتهم، تكشف لنا هذه الحقيقة الإيمانية الكبرى وهي: “إن الذي يصلّي، لا يبشّر فقط في حياته بل في موته أيضاً، وإن شهادة الموت هي ثمرة شهادة الحياة، وإننا نموت كما نعيش”.
ونحن في زمن الصوم، الذي فيه نستعد للإحتفال ولإحياء ذكرى موت وقيامة ربنا والهنا يسوع المسيح، له كل المجد والإكرام والسجود، وكذلك نحن في السنة التي خصّصها البابا فرنسيس للصلاة، إستعداداً للإحتفال بسنة اليوبيل التي سوف تصادف العام القادم، لنصلّ الى الروح القدس، ينبوع كل العطايا والمواهب، أن يهبَنا موتاً يتحول إلى إحتفالاً ليتورجياً نسبّح به الله على كثرة محبته لنا ويكون سبباً في نشر نور الإنجيل بين الاُمم والشعوب التي ما زالت محرومة منه.
من المؤسف حقاً أن يكون سبب موتنا الأمراض التي تصيبنا بسبب الأفراط في المأكل أو المشرَب، أو الإدمان على المخدّرات والمسكّرات، أو القيام بأعمال منافية للقيم والأخلاق المسيحية التي يعلّمنا إيّاها الإنجيل وتحثّنا الكنيسة على الألتزام بها.
لنطلب الى اُمّنا مريم العذراء أيقونة القداسة، أن ترافقنا بصلاتها المستجابة، لكيما نتعلم منها أن نستمع الى كلمة الله ونتأمل بها في قلبنا.
أرجو من الذين يقرأون هذه الأسطر أن يصلّوا من أجلي كي أعيش ما تبقى لي من الحياة الزمنية بالإيمان والرجاء والمحبة وشهادة الحياة. مع الشكر
ولنبقَ متحدين بالصلاة، رباط المحبة الذي لا ينقطع