التواجد بين الطرفين: ان نكون حجاج اليوم في اورشليم
بقلم الكاردينال فيرناندو فيلوني – المعلم الاكبر في جماعة فرسان القبر المقدس.والرئيس الفخري لمجمع انتشار الايمان للشعوب.
ترجمة الخوراسقف غزوان بحو شهارة
الكاردينال فرناندو فيلوني، المعلم الكبير لجماعة فرسان القبر المقدس، وهو عائدا من رحلة حج في الأرض المقدسة، يرافقه كاهن رعية غزة، يقدم لنا شهادة مؤثرة عن روحية الأماكن والاشخاص الذين يعانون ويتوقون إلى السلام.
الحج يجلب دائما معه الامل والكثير من الامنيات. بل وأكثر من ذلك خاصة حينما تحدث في الاماكن المليئة بالتاريخ وبالرمزية الدينية والبثقافة الغنية والجمال الفائق الطبيعة. اورشليم هي إحدى هذه الأماكن؛ بالنسبة للمسيحيين هي الأكثر جاذبية، وليس أقل من ذلك بالنسبة لليهود والمسلمين، والذين تعود جذور ايمانهم إلى هنا، او اولائك الذين يؤمنون بالله الذي يكشف عن نفسه ويتكلم. لقد أصبحت الأرض المقدسة، وفيها تعتبر اورشليم جوهرتها المركزية، في تشكيلتها الواسعة الإسرائيلية – الفلسطينية، اصبحت منذ 7 اكتوبر الماضي أرض المجازر والحروب وتوترات جديدة. لقد تفاقمت تلك الأزمة الكامنة دائما والتي يبدو أنها بالرغم من الجهود الدولية المكثفة لم تتمكن من الوصول الى حلول عملية.
وهكذا اختفت رحلات الحج. وانقطعت العلاقات الهشة؛ والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية المعقدة والمضطربة التي كانت مصدر رزق لقسم كبير من السكان الفلسطينيين، والتي انقطعت هي الأخرى؛ والاقتصاد كذلك يعاني. والعديد من العائلات ليس لديها فرص العيش. بقيت لمدة خمسة أيام مقابل الأسوار القديمة وبالقرب من ” الباب الجديد”، أحد مداخل المدينة القديمة، الذي يؤدي مباشرة إلى الحي المسيحي؛ شعرت بالفراغ المثير للإعجاب: لا حجاج ولا زوار ولا حياة؛ المحلات التجارية مغلقة ومقفلة وهناك فقط بعض السكان القليلين جدا وبعض القططة السائبة. المدينة تظهر نظيفة، والشوارع الضيقة والمنحنية وذات الدرجات مغسولة؛ والصمت يخيم في كل مكان. تظهر فقط اصوات بعض محركات الالات لعمال تنظيف الطرق وتبدو في غير محلها.
ان نكون حجاجًا، عندما يكون كل شيء متوقف، يفسح المجال لقلق عميق: ما معنى ذهابنا إلى هناك؟ تبدو فكرة أن تصبح حاجًا غير مناسبة جدا ويمكن أن يسودها القلق أو الخوف. الذهاب إلى اورشليم، لمن يستمع إلى الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام، قد يبدو تهوراً؛ وهذا ما ألمح إليه أحدهم عند انطلاقي؛ في الحقيقة، ليس هذا هو الحال. ونتساءل، هل نحن نسافر في الحياة من دون مخاطر؟
أن تكون حاجًا في اورشليم وبيت لحم اليوم يعني الصلاة من أجل السلام، وإظهار القرب والتضامن تجاه شعبين لا يتجرأ احدهما الحوار مع الاخر، بل يتقاتلان، ويكرهان احدهما الاخر، ويطالبان بحقوق حقيقية قديمة وحديثة. أليس كل هذا كارثيا في الوضع الحالي؟ على ما يبدو نعم؛ ولكن ليس في المدينة المقدسة، اورشليم، التي دمرت وأعيد بناؤها مئات المرات، وتحمل في حجارتها المقدسة، بالنسبة للمسيحي، الإيمان بالمسيح القائم من بين الأموات؛ أي علامة الرجاء الحية نفسها.
إن قيامة المسيح بالتحديد تنفتح على المستقبل لتقول إن العنف والصراعات والمواقف المعادية لا يمكن أن تكون لها الكلمة الأخيرة. انا صليت على حجر القبر المقدس. يصلي هناك يوميًا الفرنسيسكان والأرثوذكس والأرمن والأقباط والعديد من المؤمنين الآخرين. إن القائم من بين الأموات الذي هدأ قلوب المتشككين لم ينتهي عمله معنا اليوم.
أن تكون حاجًا في اورشليم الآن، بينما السلام لا يزال بحاجة إلى الإيمان والرجاء والمحبة، يعني قبول وحمل امنية الملايين من الرجال والنساء الذين يصلون باستمرار إلى الله من أجل رجاء السلام.
أن تكون حجاجًا في هذه المدينة المقدسة، التي يوجد في حمضها النووي مشروع السلام الذي يحمل اسمها – شالوم، سلام – يعني الخوض في سرها؛ اورشليم هي سر: المدينة المقدسة، المدينة المعبودة، والمحبوبة، التي نحلم بها، والتي تم احتلالها وتدميرها وأعيد بناؤها، وفي الظروف الحالية تطلب مرة أخرى ألا ينطفئ رجاء السلام. في الواقع، كان الحجاج القليلين جدا والذين التقينا بهم، وكانوا على معرفة بالمأساة التي تحدث – أستطيع أن أؤكد لكم – قد بدت على وجوههم علامة امل كبيرة: الله هو دائما الاقوى، وإرادة الله محفورة في الحجارة وفي حياة الناس الذين يعيشون في اورشليم بعيدة كل البعد عن أخبار العنف. ولكن ما هو الوجه الذي يمتلكه الرجال الذين يختارون العنف والحرب؟ ما المستقبل الذي يأملون فيه؟
وهكذا تنتظر اورشليم عودة حجاجها. لقد سمعت مآسي العائلات الإسرائيلية التي لا عزاء لها؛ ولا تزال جراحهم العميقة خطيرة للغاية. كما أخبرني كاهن رعية غزة الذي رافقني في رحلتي، عن حجم الدمار البشري والمادي، فضلاً عن المأساة الدراماتيكية للرعية الكاثوليكية الوحيدة هناك، والتي يأمل هو في العودة إليها في أقرب وقت ممكن، حيث كان في الخارج قبل اندلاع الحرب.
أن نكون حجاجًا يعني أن نكون بين الطرفين؛ والتصور، في بعض الأحيان، هو أن المرء يتأرجح تارة الى جهة، وتارة الى جهة أخرى؛ وهذا أمر مفهوم. ولكن يجب ألا نستسلم للتناقض، لأن الدم الإسرائيلي والدم الفلسطيني ليس لهما لون مختلف، وليس للدموع قطرات مختلفة.
إن الإصغاء لجراحات بعضنا البعض يتطلب شجاعة: فالألم مع المتألمين والفرح مع الفرحين، بحسب التعليم الكتابي (راجع: يشوع بن سيراخ 7، 34، رو 12، 15)، يرشدنا إلى الطريق، لأنه يجب ألأخذ بعين الاعتبار الأسباب ويجب أن توضع على طاولة النقاش لمن بيدهم السلطة؛ ولذلك علينا أن نكرر باستمرار للسياسيين أننا بحاجة إلى الجلوس والتحدث مع بعضنا البعض، دون عنف، ودون تصورات مسبقة ودون استفزازات. هذا حتى لا نستسلم للعنف المسلح.
إن العودة كحجاج إلى الأراضي المقدسة تعني إعادة القوة للأمل للرجال وللنساء الذين لا يستسلمون للمذابح الجبانة التي يرتكبها الإرهابيون، أو للقصف الأحمق بالقنابل والدبابات.
العودة إلى الأرض المقدسة تعني محبتها؛ إنها محبة اورشليم، ومحبة بيت لحم، ومحبة الناصرة؛ بل هو منحهم الحياة مرة أخرى، بحيث يكون للإله الذي أحبه موسى، والذي ظهر في المسيح وصلى المسلمون له، مكان هناك مرة أخرى. الأرض المقدسة ملك للجميع.
من هو الحاج في اورشليم اليوم؟ إنه عامل صغير يبني السلام!