العيش المشترك، هل نحن محكومون به؟ أزمة العلاقات
بقلم الكاردينال فيرناندو فيلوني، الفارس الأكبر لفرسان القبر المقدس
ترجمة: الأب أفرام كليانا
هذا التساؤل هو وليد ما نعيشه في هذه الأيام، لكنه ليس وليد اللحظة فقط..! فمهما يكن من أمر، إن الحروب في أوكرانيا، وفلسطين واسرائيل، والسودان وأجزاء أخرى من العالم، تثير فينا الشكوك باستمرار، بأن الاختلاف، أو المصالح، والأفكار المتشددة حتى الدينية منها، تبدو وكأنها غير قابلة للنقاش والحل والتسوية، بل هي نذير ازدياد العنف في عالمنا.
العيش المشترك، أي أن نعيش معاً، هو أمرٌ لابد منه، إننا محكومون به؟ إن الأحداث الدرامية للعنف الممارس على النساء، والأنقسامات الأسرية، والشباب الذين يتخذون من العنف أسلوباً للحياة، والوضع المعقد بين الدين والسياسة، والتعلق المريض بالسلطة، يطرح علينا هذا التساؤل: لماذا العلاقات المشتركة تبدو مستحيلة؟ آخذين بنظر الاعتبار بأن هذه الأزمات تتفاقم أو تتضاءل بقدر ما تكون العقلانية والذكاء، والبحث عن الحقيقة ودور الضمير مهمشاً عند الأفراد.
مُذ كنت شاباً، عشتُ في بيئة أحادية الثقافة والدين، وهو أيماني الكاثوليكي. ثم بعد سن الثلاثين وجدت نفسي في بلدان متعددة الثقافات والأديان، حيث كان الإيمان المسيحي أقلية لا أكثرية. تعرفت على بيئات جديدة (الإسلام، البوذية، الهندوسية)، والتي أعترف بأنها كانت مفيدة وجميلة لتنشئتي وتعليمي. هذا التنوع الثقافي والديني يساعدنا بشكل أساسي، على التعرف على غنى القيم والتقدير والاحترام لها من دون مقارنتها مع غيرها. فالقبح يأتي دائماً من التعصب والازدراء، وهنا وجدت نفسي أيضاً في صراع.
كوّنتُ صداقات رائعة، وهنا أود أن أشير إلى إثنين منهم: الأولى تكونت عندما كنت أعيش في هونك كونك، من خلال زيارة مجاملة روتينية حيث جاء إليّ حاخام من أصل ألماني، لكنه يعيش في نيويورك وكان مسؤولاً عن كنيست (معبد) لليهود في بارك إيست. هذا الشخص عندما كان صبياً كان سجيناً في معتقلات النازيين إبان الحرب العالمية الثانية، ولا يزال يحتفظ برقمه كسجين على ذراعه. إنه أحد الناجين العارفين بتلك الفضائع التي ارتكبها النازيون، والتي يرويها لنا لكي لا ننساها (إن زيارة معسكرات الاعتقال هو دائماً عمل يدعونا للتأمل). عندما كنت أعمل في سكريتارية دولة الفاتيكان، اقترحت على البابا بنيدكتوس السادس عشر الذي كان يروم للقيام بزيارة للولايات المتحدة، أن يقوم أيضاً بزيارة إلى الكنيست الذي يقيم الصلوات فيه صديقي الحاخام. لقد كانت هذه الزيارة الحدث الأبرز في حياة صديقي، الذي كرّس حياته بعد تلك الزيارة للدفاع عن العيش المشترك والسلام بين الشعوب.
قبل مغادرتي للعراق في آذار سنة 2006، بعد انتهاء الحرب، حيث كان الوضع السياسي والمدني لا يزال غير مستقر في عموم البلاد، ويعاني المسيحيون من الاضطهاد والمضايقات، جاء مسلم لزيارتي. وطلب مقابلتي وأهداني صليبا يحمله الأساقفة على صدرهم، وقال لي بأنه صنعه بنفسه لأنه كان صاحب مهنة. أهمية الهدية لم تكمن في معدنها الغالي (التي لم تكن موجودة في حينها)، بل كان في معناها الرمزي المتمثل بأن مسلماً صنعاً صليباً وهو رمز للمسيحي وأهداه لأسقف كاثوليكي. وقال بأن هذا الصليب (الهدية) هو من أجل ان أتقاسم مع أبناء شعبي معاناتهم والآمهم بسبب الحرب وتبعاتها الفضيعة.
إنني احتفظ بذكريات رائعة لهاتين الصداقتين، واعتبرهما هديةً لا ثمن لها.
فهل حقاً، العيش المشترك بسلام بين حقائق مختلفة يعتبر أمراً مستحيلاً؟ وما المطلوب لكي يتحقق ذلك؟ نعرف جيداً بأن أزمة العلاقات، هي أزمة إنسانية، ولكن وجودها وديمومتها يعتمد بشكل كبير على مدى صحة ثقافتنا، وديانتنا وإنسانيتنا.
يسوع في تعليمه حثّ التلاميذ على ان يبقوا في العالم، بشرط ان لا ينتموا إليه (أنظر يوحنا 15: 19)، ويسوع يقصد ذلك العالم الذي يزرع به البشر أنانيتهم، عندها سيتحول هؤلاء البشر إلى أشخاص متذمرين، مبغضين، كذابين، وغير راضين بشكلٍ لا يوصف، حسودين، وربما يتحولون إلى قتلة ومجرمين. وقد ساهمت الشبكة العنكبوتية (الانترنيت) بشكل كبير في تأجيج هذه الغرائز لدى الكثيرين، من دون ان تكشف عن نفسها.
إن أمعنّا النظر، سنجد أن ما يظهر في عالمنا اليوم، هو في حقيقة الأمر أزمة علاقات. علينا ان ندرك بأن العلاقة ليست جانباً هامشياً من جوانب الحياة، بل هي عنصرٌ جوهري، وهذه العلاقة تبدأ منذ أن يتكون الإنسان في بطن أمه، وتمتد تدريجياً إلى جميع جوانب حياتنا، وحتى ذلك الجانب المتعلق بالروح الذي ينبغي أن يُمثل ذلك الآخر (الله)، المختلف عني، ولكنه يريد ان يعيش معي.
كل علاقة، عند النظر إليها بشكلٍ دقيق، لها ثلاثة أبعاد: العلاقة مع الطبيعة، والذي يُعد الجمال هو الشيء الأكثر روعةً فيها؛ والعلاقة مع الآخر، التي رغم كونها معقدة نوعاً ما، ولكن في النفس لا غنى عنها؛ ثم لدينا العلاقة مع الروح، والتي مع الأسف مهملةٌ بشكل كبير اليوم. بهذا الصدد يرى الكاتب المثير للإهتمام بنيامين لاباتوت (Benjamin Labatut)، أن معظم الناس الذين يعتبرون أنفسهم مستنيرين ويقظين وأذكياء، قد فقدوا الإيمان بكل ما هو غير مرئي، وبكل ما هو مختلف. بالتالي، فإننا جميعاً ولنفس السبب بدأنا نفقد علاقاتنا الداخلية مع ذاتنا، ومعها فقدنا أيضاً تأثير الصلاة فينا، والإيمان بقوة هذه الصلاة وقدرتها على تلبية احتياجاتنا. وفي جوانب كثيرة من حياتنا قد فقدنا أيضا علاقتنا مع الله، الذي يتكلم من خلال ضميرنا، وهو أقدس ما في وجودنا الإنساني.
دعونا نعود إلى تساؤلنا في البداية. فنحن إن فقدنا واقعياً الاحساس بعلاقتنا ثلاثية الأبعاد (الآنفة الذكر)، فسنكون وحدنا، سنكون منعزلين، وعزلتنا هذه لن تكون كعزلة القديس أنطونيوس في الصحراء، الذي أثار حب الحياة النسكية في قلوب الكثير من الشباب، والذين لا يزالون يتبعونه إلى يومنا هذا. ولكنها ستكون عزلةٌ أولئك الذين لا ينظرون إلى عيون الأخرين، ولا يدركون جمالها، بل يغذون الإنغلاق فيها: والحرب والإرهاب هما التعبير الأكثر وضوحاً لهذا الإنغلاق.
لقد حاول آباء الكنيسة من خلال لغتهم اللاهوتية أن يشرحوا لنا سرّ الله، لقد تحدثوا عن الله كعلاقة، من خلال علاقته (الثالوثية) كشركة بين الأقانيم الثلاثة، أو من خلال البُعد الأنتروبولوجي (الإنساني)، أي حدث ميلاد المسيح، الذي من خلاله أخذ الله جسداً، لكي يستطيع ان يدخل في علاقة حقيقية مع الإنسان، لا علاقة أيديولوجية أو فكرية أو اسطورية.
مع اقتراب عيد الميلاد، لنتذكر سويةً ذلك الحدث الفريد وغير المسبوق لأهم العلاقات.