ليتورجيا الكنيسة سمفونية تُعلِن حضور الله الفاعل بيننا
كنيستنا في هولندا
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
هذه الفترة من السنة الطقسية مليئة بالمناسبات الدينية والأعياد لتأتي بالثمار المَرجوّة، ينبغي أن يكون الإحتفال مفهوماً ومُعَداً، لا جاهزاً ومرتَجلاً!
الصلاة كالانجيل تساعدنا على الفهم، والعمل بإسم يسوع، وعيش الملكوت في داخلنا. على المؤمن ان يكون له قلبٌ يصلّي مثل قلب المسيح الذي كان ينفرد للصلاة، وجسَدٌ يحبّ ويخدم بدون شرط مثل جسد المسيح. في الصلاة نركّز دائماً على شخص يسوع في المقام الأول، لأن الله غير المنظور، منظورٌ فيه.
حياتُنا صلاةٌ يقول يسوع: “صَلّوا كلَّ حين ولا تَملّوا” (لوقا 18/ 1). من الصلاة نَتعلَّم الشيء الكثير. الصلاة تمنحنا القدرة على النمو الروحيّ، اذ بالصلاة تتدفَّق قوة المسيح في حياتنا، وتساعدنا على الاتحاد به، اتحاداً روحيّاً عضويّاً، وليس شكلياً. الصلاة لا يمكن ان تكون صدفةً أو فرضاً.
تَرديدُنا عبارة “يا رب، يا الله” مراراً في الصلاة، ليست مجرد روتين، بل كلمة خلّاقة، تلحم حياتَنا، وتعطينا دفء الروح، وقوةَ الثبات والصمود. لنركّز عليها عندما نلفظها بشعور صادق، والّا نكون كنحاسٍ يطنّ (1 قورنثية 13/ 1).
علمتني اُمّي التي لم تكن تقرأ وتكتب، ان اُصلّي قبل النوم صلاة قصيرة هي: “يا رب بين يديك استودع نفسي وجسدي“. ولا أزال اُصلّيها كل يوم.
الدائرة الطقسية Liturgical circle التي تبدأ كلَّ سنة بأحآد المجيء – الميلاد وتنتهي بتقديس الكنيسة، هي مدرَسة لتعليم الإيمان وإكتشاف كلمات المسيح المباركة كلمة كلمة، والتأمّل فيها وحملها الى الآخرين، لان كلمة الله هو شخص المسيح، الذي سكن بيننا.
الدائرة الطقسية (السنة الطقسية) هي محطات حياة المسيح كاملة: البشارة والميلاد والعماد (الظهور)، والصوم – الآلام، والقيامة وحلول الروح القدس، وزمن للتوبة والاهتداء (زمن الصيف وايليا والصليب وموسى وتقديس الكنيسة). هذه المحطات تسمى بتدبير الخلاص ܡܕܒܪܢܘܬܐ.
تهدف الدائرة الطقسية التي تتجدّد كل سنة الى إبقاء المسيح بيننا، وتحويل هذه العلاقة الى طاقة نجسّدها في واقعنا المعاش، ولهذا السبب ينبغي أن تتجدد.
من المعروف ان اللاهوت عموماً عند الشرقيين يعبَّر عنه في الليتورجيا ومواعظ آباء الكنيسة، وليس بلاهوت مدرسي منهجي كما لدى اليونان واللاتين. فالليتورجيا هي التي حافظت على إيمان المسيحيين الشرقيين أمام عواصف الاضطهادات المتكررة.
الليتورجيا صلاةُ الكنيسة الرسمية الليتورجيا (صلاة الشعب) هي الصلاة الرسمية للكنيسة. وتشكّل بكلماتها وعناصرها سمفونية جميلة، تعلن حضور الله الفاعل فينا. تتكون الليتورجيا من صلاة الصباح، وصلاة المساء، والإحتفال بالقدّاس والأسرار الاخرى، وصلاة الساعات للرهبان والراهبات.
تتضمن الليتورجيا إبتهالات وانغاماً وتسبِحات وصلوات وطلباتٍ، ألّفها آباء الكنيسة (الذين كانوا ظاهرة “فلتة”) في القرون الاولى، نرفعها الى الله الآب أو الى المسيح والروح القدس، تنبع من إيماننا به وحبّنا وتعلّقنا. كما ثمة صلوات تطلب شفاعة العذراء مريم (صلاة المسبحة) والقديسين والشهداء.
يشترك في صلاة الليتورجيا المؤمنون: رجالاً ونساءً واولاداً، بجسدِهم وحواسِهم وعقلِهم وقلبِهم، جلوساً ووقوفاً وانحناءً وركوعاً، شاكرين الله ومُمجدين إيّاه، وسائلين منه المغفرة والعون… لنشارك في ليتورجيا الكنيسة بشغَف وانتعاش وفرح ومن دون تَشتُّتْ. اذا فهمناها حقاً، وعشناها تُشرّع أبواب الروح فينا، وتُعمّق الحبّ في قلوبنا.
على سبيل المثال. في الاحتفال بالقداس”القربان” الذي نتناوله يأتي المسيح الى داخلنا. علينا ان نُبقيه فينا: “إصنعوا هذا لذكري” (لوقا 22/ 19).
كل جزء من المواد المستعملة أساسيّ، كالخبز والخمر والماء، والكتاب المقدس والصليب، والمذبح والشمع والبخور والحُلَلْ والورد والأيقونات. الاشياء العاديّة هذه، تصبح رموزاً وتتخذ معنىً خاصّاً و “روحاً” للمؤمن المشارك في الاحتفال. على الأساقفة والكهنة شرحها للمؤمنين.
بإختصار فان الليتورجيا هي صلاة الكنيسة (عائلة الله). أمَا يدعو الكاهن المُصلّين في القداس: “إرفعوا أفكاركم الى العُلى“؟
النصوص الشعرية والنثرية، والكلمات المختارة بدقة
والايقاع الموسيقى الذي يرافقها والأداء المتناسق والمتناغم، والنَبرة طرب في حبِّ المسيح يتحرك في داخلنا وتتيح لنا لحظات الصمت القصيرة التي تتخللها أن نتأمل فيها لنفهمها أكثر |
هذا ما إختبرتُه في صلاة الصباح والمساء والاحتفال بالقداس في كابيلا البطريركية مع كادرها، وحالياً مع الاكليريكيين في كابيلا الدير الكهنوتي بعينكاوا. خلالها أتلمَّس وكذلك من معي حضور الله وانفتاحنا له بكل كياننا، بالرغم من الظروف اليومية المعقّدة والمؤلمة. الليتورجيا ليست طقساً جامداً نكرره برَتابة وسطحية.
نماذج من هذا الإبداع الليتورجي
على الكنيسة “بيت الله” التي تمارس فيها الليتورجيا أن تكون جميلة بهندستها وزينتها لكي تعكس جمال الربّ. عندما نغمض عينينا ونرفع أيدينا الى فوق مبتهلين ومرتلين الصلاة التي علَّمَنا إيّاها يسوع “أبانا الذي في السماوات” تشقُّ صلاتُنا طريقَها الى السماء، الى الله أبينا، بثقة وامتنان. |
||||||
التطواف بالانجيل والقراءات | ||||||
التطواف بالانجيل مع شموع هو إحتفال باستقبال المسيح
أما القراءات فتؤدَّى بصوت مسموع على ان يعطي القاريء صوته لكلمة الله حتى تؤدّي دورها |
||||||
تبادل سلام المُصالَحة – الصفح في الليتورجيا
عندما يقول الشماس: “تبادلوا السلام بمحبة المسيح“ إنَّما هو صوت المسيح يقول: “السلام معكم..أغفروا لبعضكم.. لا تخافوا“ هذا السلام ينبعث من الكأس الذي يضع المُحتَفِل يديه عليه ويقول السلام معكم، ومنه يتبادل المشاركون السلام. سلامٌ يتجدد في قلوبنا، ويحمل لنا مواساة وتعزية فائقة. سلامٌ نتمناه على الأرض، كما جاء في ترتيلة الملائكة ليلة الميلاد “المجد لله في العلى وعلى الارض السلام” (لوقا 2/ 14). أليس بهذه العبارة تبدأ كل صلوات الليتورجيا الكلدانية؟ |
||||||
النصوص التالية تُرَتَّل حتى في أيام الاسبوع ولا تُتلى نثراً، وقد إتخذنا القرار بذلك في أحد السينودسات |
||||||
عندما نُرَتّل لاخو مارا: “الحمد لكَ يا رب الكلّ، والمجد لك يا يسوع المسيح، لأنك باعثُ أجسادِنا ومخلُّص نفوسِنا” | وقديشا الآها “قدوسٌ الله، قدوسٌ القويّ، قدوسٌ الذي لا يموت، إرحمنا”،
أليس لكي نحيا بحياتِه. |
كذلك نرتل في القداس: قدوسٌ قدوسُ قدوسُ الربّ القويّ، الآله الصباؤوت السماء والارض مملوءتان من مجدك.. ترتيلة الملائكة هذه التي ينقلها إشعيا النبي (اشعيا 6/ 3) تدمجنا بجوق السماء في تمجيد الله. | ||||
في التسبِحات نجد إيقاعاً شعرياً غنائياً
يُطرب القلب ويُنعش”الروح” |
||||||
في البشارة ܒܪܝܟ ܚܢܢܢܐ: “تبارَك الحنّان [الله] الذي بنعمته قادَ حياتَنا عن طريق النبوَّة. بعين الروح رأى إشعيا [النبي] إبن البتول العجيب”. | وترتيلة النور ܢܘܗܪܐ ܕܢܚ ܠܙܕܝܩܐ: “أشرق النورُ على الأبرار܀ والفرحُ على مستقيمي القلوب܀ يسوع ربنا المسيح܀ شرَقَ لنا من حَشا أبيه” | |||||
الشكر لله ܬܘܕܝ ܠܛܒܐ:
“الشكرُ لله [للصالح] الذي حرَّرَ جنسَنا من عبودية الشر والموت … تبارَك الحنّان الذي فاجأنا وخرَجَ في إثرنا، وفرح بحياتنا، وشبَّه تيهنا وعودتنا بمثال الخروف الضال”. |
لكَ السُبْحُ رَّبَنا ܠܟ ܬܫܒܘܚܬܐ ܐܠܗܐ:
لكَ السُبْحُ رَّبَنا* لكَ الشكرُ بارينا* إِنَّكَ جابلُنا* يا ربّاً حنوناً* إلهاً رحوماً* خالقاً كريماً* فادِينا وحامِينا* مُعينَنا* ناصِرَنا: نسجدُ لكَ يا ربْ، لأنكَ طويلُ الأناةِ، وغزيرُ النعمةْ܀ |
|||||
مدراش الميلاد. معجزة عظيمة ܬܲܗܪܵܐ ܪܲܒܵܐ المجد لذاك الطفل الذي أبوه من السماء، واُمّه من الأرض، والذي يفوق الإدراك… |
||||||
المزامير المنتقاة التي نرتّلها على مهلٍ بألحان مختلفة وفقاً لكل مناسبة. |
أناشيد الشهداء صباحاً ومساءً بلحنها الشجيّ. أذكر على سبيل المثال نشيد صباح الثلاثاء: “سبحوا الله يا أبرار: تاجرتُم يا شهداء، ونِلتم كنز السماء، إقتنيتم جوهرة، بدم رقابكم. | |||||
اللمة – التبسية: عطاء للفقراء واشراكهم بما وهبنا إيّاه الله |
الليتورجيا سمفونية متكاملة رائعة
ينبغي إعدادها بشكل جيّد وأداءها بتناغم.. لاحظتُ عند حضوري ليتورجيا غربية، ان الجماعة المشاركة ترتل وكأنها صوتٌ واحدٌ، وليس “أصواتاً” أو “صياحا” كما هو الحال عندنا في بعض الأحيان.
يقول البابا فرنسيس
“نعرف مدى أهميّة بيئة الاحتفال لتحفيز الصلاة وحسّ التواصل: المكان، النور، الصوت، الألوان، الايقونات، الرّموز، والأثاث الليتورجي الذي يُشكّل عناصر أساسيّة لهذا الحدث الإنساني والإلهي في الوقت عينه، والذي هو تحديداً الليتورجيا.. إنّ فنّ الاحتفال يجب أن يكون موافقاً لعمل الروح:
أولاً، بفهم اللغة الرمزيّة
أي إستعادة القدرة على فهم رموز الليتورجيا، والتي أصبحت بعيدة بالنسبة إلى الإنسان المعاصر.
ثانياً، وحي الإبداع الفنّي والهندسي
الذي ينبع من الحياة الليتورجيّة وعمل الروح القدس، ففنّ الاحتفال يجب أن يكون موافقاً لعمل الروح” 1.
___________
1 رسالة البابا فرنسيس لممثّلي الأكاديميات الحبريّة، عبر الكاردينال خوسي تولنتينو دي مندونشا (عميد دائرة الثقافة والتعليم، ورئيس مجلس التنسيق التابع للأكاديميات الحبريّة) يوم الثلاثاء 14 آذار 2023.