عيد المحبول بها بلا دنس يعني ببساطة عيد مريم الطاهرة!
بمناسبة عيد العذراء بلا دنس وهو عيد الراهبات بنات مريم الكلدانيات، اليهن تهاني الحارة
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
الحَبّلُ بمريم (بلا دنس) Immaculate، مصطلح لاهوتيٌّ يعني ببساطة الطاهرة. ويأتي هذا العيد قبيل الميلاد، تهيئة لميلاد يسوع، لكي نُجَهِّزَ له الطريق ليبقى حيّاً دائماً في داخلنا كما كان في داخل امه مريم، وإلا لن نتمكن من التواصل بشكل فعال في عيش إيماننا وتكريسنا. هذا هو تعليم الكتاب المقدس الثابت والملزم، على المؤمن والمكرس أن يفهمه ويعيشه، بالرغم من ان المزاج العام مختلف تماماً اليوم! نحن بحاجة شديدة الى مريم لتقوّي ايماننا وصمودنا أمام المصاعب التي تواجهنا.
تركّز المناسبتان على ان الله هو سيدّ الخليقة والحياة، وقريب مِنّا ومُهتم بِنا كأب، كما تُعبّر بقوّة ترتيلة ايُّها الفخاري: “أيُّها الفخاري الأعظم، أنا كالخزف بين يديك. عُدّ واصنعني وعاءً آخر مثلما يَحسُن في عينيك.. ثقتي في نعمتك ويديك..” اي اني جبلة حبٍّ بين يديك يا الله. وقد عبَّر عنها بقوة القديس شارل ده فوكو في صلاته: “ابتي اني اقدّم لك ذاتي فافعل بي ما تشاء ومهما فعلت بي فانا شاكرٌ لك” هذه الترتيلة التصوفيّة والصلاة الوجدانية هما مشروع تقدمة “قربان” حبّ كامل لله ممّا يجعلناْ أكثر طهراً وقوةً.
يَعتَبِر المؤمن أن التاريخ مقدَّس يختلف عن التاريخ المدني chronology، لانه يُخبرنا عن تدخل الله في حياتنا عِبر الخلق والارتقاء. الله موجود في كل ولادة جديدة. تتكلم الفصول الاولى للأناجيل عن ولادات هي براعم حياة جديدة: ولادة يوحنا، ويسوع. وفي الأخيرة نجد صرخة النصر تمنحنا النعمة لننضج ونتقدم ونرتقي “مع مريم نحو الأعالي” كما هو مثبّتٌ في شعار الراهبات الكلدانيات بنات مريم الطاهرة. بمعنى آخر على كل راهبة ان تكون “مريم” أخرى مثلما على الكاهن ان يكون “مسيحاً” آخر.
العقائد المريمية ليست خلاصة فكر لاهوتيّ نظريّ جامد، بل تتحدث بلغة الحياة، وتستخدم مفردات مختارة لشرح دور مريم المتواصل كأم مؤمنة وطاهرة، حاضرة وشاهدة ومبشرة.
عيد مريم الطاهرة هو عيدُ كلِّ امرأة ومكرسة وخصوصاً كل مكرّسة من بنات مريم الكلدانيات. عيدٌ يعكس تصميم الله لكي يكتشف كل واحد من بناته وأبنائه جذوره المقدسة، النقية والمنيرة، فينضم الى أُمِّ يسوع وأمِّه “هذه امّك” (يوحنا 19/ 27).
الدعوة ليست أمراً عابرأ، بل تصميم إلهيّ مقصود: معرفة مُسبَقة، واختيار وتقديس من أجل خدمة (رسالة) معينة. يقول الله لإرميا النبي “قبل ان أصوّرك في البطن عَرَفتُك، وقبل أن تخرج من البطن قدَّستُك” (إرميا 1/ 5). سيدتنا مريم قالت “نعم” لله بإسمنا وأخلت ذاتها ليسكنها ابنها.
أقول للمكرسات والمكرسين أن دعوتكم نعمة ومسؤولية كبيرة يجب ان تكونوا مستعدين لترك كل شيء جانباً، لتحقيق هدفكم المطلق في الاندماج في يسوع ويسوع فيكم ومن خلال أمه مريم. الحبّ هو دعوتكم العظمى! هكذا تقدرون ان تعطوا عاديات حياتكم معنى، وتحولونها الى اشياء مدهشة.
لقد حان الوقت لنكتشف من خلال مقاطع الانجيل القليلة المتعلقة بمريم صفاء ذهنها، وشعلة إيمانها، وعمق روحيتها، لنتغذى منها روحاً وفكراً وقلباً، فيكون لنا دورٌ فاعلٌ ومؤثر في الكنيسة والمجتمع.
مريم: حارسة النور، والنافذة التي يشع من خلالها. سيدة لا تفعل سوى الخير كما يذكر الإنجيل. يدٌ غير قادرة على العنف والتجريح. براءة منتصرة رائعة، حتى في اشدّ الظروف ألماً، لا غموض فيها. حنانها لا يفقد بريقه. قلب غير منقسم، وغير ندمان، أمومة غير متملّكة، ممتلئة نعمة لا يمكن لأي ظلام أن يحجبها.
مريم أمُ تستحق ان نفتخر بها، وهديّة كاملة، وعربون مستقبلنا وابديتنا. إحتفالنا بعيدها أليوم، ينبغي ان يغدوَ احتفالاً لا ينتهي، وعودة مستمرة الى جذورنا المقدسة، الى روحانية الاعجاب والحماسة والفرح والعزم، والى إنسانية مُتصالحة ومتناغمة، مُحِبة للحياة والسلام، ترسّخ الاُخوَّة والصداقة، انسانية خالية من سّم البغض والحقد والمرارة والعنف (الحرب) والموت والدمار.
لنطلب من الروح القدس أن يُضيْ عقلنا وقلبنا بمواهبه ويثبت بأنواره مسيرتنا الروحية والانسانية.
في ظلّ حمايتك نلتجيء، يا امنا مريم.