الاحتفال بزمن البشارة والميلاد، يجب أن يختلف عن السابق
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
المناسبات الدينية فرصٌ خاصّة تُنظّمها الكنيسة، لتعميق إيمانِنا وشدِّنا الى بعضنا البعض، لذلك يجب ان نُعِّد الإحتفال بها جيداً، وليس بشكل روتيني وسطحي. هذه المرة ينبغي ألا يكون الاحتفال كالسابق. كلُّ شيء في الحياة مهما كان صغيراً، حتى يأتي بثمار، ينبغي أن يُعَدّ باتقان.
الإنتــــظار، الأمـــل – الرجــــاء الأمل ليس تفاؤلاً، بل الثقة بأن ما نعيشه من صعوبات وألم سنكتشف بطريقة ما ان له معنى، تماماً مثل المرأة الحامل التي تتألم الى حين تضع طفلها فتفرح فرحاً عظيماً. يؤكد يسوع: “اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ، وَلكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَح” (يوحنا 16/ 20). الانتظار- الأمل ليس لعبة “يا نصيب”، بل انتظارٌ واعٍ يُحرِّك مشاعرَنا، ويبثُّ فينا الرجاء بتدخل الله الخلاصي. هذا التدخل الخلاّق يتم من خلال أشخاص مثل يوحنا المعمدان، والطفل المولود وامّه الطاهرة، والقديسين، لذلك يجب أن نكون شجعان، لا نستسلم للخوف والقلق: “لا تخافوا” يُكرر الانجيل، و”لا خوف في المحبة” يقول الرسول يوحنا (1يوحنا 4/ 18). لا نخافُ لاننا على صورة الله. لنقترب منه بثقةٍ ورجاءٍ لانه حصانة فائقة لنا. لا يقتصر الانتظار على المجيء الأول ليسوع (ولادته)، بل على ما سيكون عليه المجيءُ الثاني، أي اللقاء النهائي به. أليست عبارة ماران آثا، “تعال ايها الرب يسوع” (1قورنثية 16/ 22) هي الدعاء الأول الذي أعربت الجماعات المسيحية الناشئة عن رجائها بعودة المسيح؟ أليس علينا ان نرتلها باستمرار؟يفتتح مرقس انجيلًه بعبارة غزيرة المعاني: “بدءُ بشارة يسوع المسيح” (1/ 1)، انها بداية جديدة مع يسوع، مع الله، بداية شيء جديد، وخطٍّ جديد، وعهد جديد، وعلاقة جديدة ووجود جديد. |
البشــــارة – الانجيــــل هي إمكانية أن نعيشَ وضعاً جديداً، بعيداً عن مشاعر الخوف والقلق والحزن والتشاؤم. الخبر السار هو يسوع الذي يؤكد ان الله يُحبُّنا، وانه هنا ومعنا، “عمانوئيل – الله معنا” (متى 1/ 23)، اي ان الله في يسوع ويسوع في الله “من رأني رأى الآب” (يوحنا 9/ 14). ويدعونا الى أن ندرك هذه الحقيقة في الإختبارات الأليمة والصعبة، ونعيش في يسوع لكي تكون لنا فيه الحياة وبوفرة (يوحنا 10/ 10). أليس هذا ما وعد به؟ “ها ءانذا معكم طوال الايام والى نهاية العالم” (متى 28/ 20). لنملأ قلوب البشر بفرح الميلاد. يوحناالمعمدان صوت في البريّة هو علامة فرح، لانه يقودنا الى يسوع الذي هو نور من نور “جاء ليشهد للنور، فيؤمن عن شهادته جميع الناس” (يوحنا 1/ 7). انه صوتُ الناطق باسم الله، الله الكلمة الخلاقّة منذ البدء “كُنْ فكان” (تكوين 1/ 3-20). صوتُ شاهدٍ ينبغي ان يَخترقَنا، ويلمس قلبَنا، ويعيد الينا الحياة: “توبوا وأمنوا...” (مرقس 1/ 15). لنصغِ اليه بإنتباه! أخيراً، في الإنتظار يُضيء الله المحبة السراج حتى تلتقي حركتُه مع حركة الإنسان، فينطلق في رحلة الحبّ والرجاء والحياة |
المـيــــــــــــلاد ميلاد يسوع هو للجميع وليس للمسيحيين وحدهم. ميلادُهُ هو النقطة المركزية لفكر جديد وفهم جديد للأشياء. ميلاد ينتقل من الأعلى إلى الأسفل. ميلادٌ ليسير الأبدي مع الناس، ويجعل نفسه مُخلّصاً لهم وخادماً. يعرض الانجيلي لوقا حَدَث الميلاد بمنظورٍ مختلف، وتفاصيل بسيطة وملموسة واسلوبٍ مشوِّق ومُمَسرح، وفي إطار واسع للتاريخ، ليدور حوله الزمن. ولد يسوع في بيت لحم، وليس في بلدته الناصرة، بسبب الإحصاء الذي أجراه الامبراطور أوغُسطُس لمعرفة عدد نفوس مملكته، لكن على الأرجح ان السبب هو أن بيت لحم هي مدينة داود النبي والملك، وان يسوع من نسلِه، يبدأ مملكة جيدة، لكن مختلفة. هذا الحَدَث كشَفَ للعلن هوية مريم ويوسف والطفل. طفل عاديّ يُعلَن أنه غير عاديّ من خلال الملائكة والرعاة والمجوس والعلامات… في هذه الظروف القاسيّة، تحصل ببساطة ولادة الإنسان الجديد الذي كشف الله نوره بحضوره بيننا ولأجلنا. أليس هو من يقف أمام بابِنا ضيفاً، يَقرعُهُ حتى نفتحه، ليدخل الى حياتنا كما يشير سفر الرؤيا (رؤيا 3/ 20).يقول مثل قديم:” من استضاف غريبا، استضاف مسيحاً”. هل نحن فعلاً مضيافون؟ يدخل يسوع عند أشخاص يعيشون في الصدق والحق ويستثمرون هبة وجودهم كما يلزم وكما يريد الله مريم تلد في مسكن مؤقت (كهف- اسطبل، وليس في الفندق)، في محل للحيوانات. انها ولادة كونية بامتياز وبالرغم من مظاهرها الفقيرة. حوله التفَّ البشر والحيوانات. ولادته دعوة الى كل انسان ليتَّحد بحقيقة الله، ليصير جسداً مشبعاً بروح الله. عندما يولد يسوع ابن الله من امرأة، تتوقف حركة التاريخ لتتدفق في الاتجاه المعاكس. هذا هو المحور المركزي للبشارة والميلاد الذي ينبغي ان نفهمه ونتأمل به ونسير نحوه، ونُوجِّه انظارَنا وفكرَنا وقلبَنا نحو شخص المسيح الذي نحتفلُ به. عالمنا مليء بالعنف والحروب كما نشاهد بحزن، الحرب المدمِّرة في الاراضي المقدسة موطن يسوع، واوكرانيا وفي أماكن أخرى. هذا العنف يتقاطع مع إعلان الملائكة يوم الميلاد، “وعلى الارض السلام”. هذا السلام هو مشروع الميلاد، مشروع الله لجميع الناس الذين يُحبّهم، ويريدُ ان يعيشوا في السلام. في الميلاد يدعونا الرب الى ان نرتدّ اليه بجدية لإبعاد الافعال المدمِّرة من عالمنا، والسعي ليصبح السلام حقيقة: “طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ“ (متى 5/ 9). |
في العشـــــاء الاخيــــر لم يكن يتوقع التلاميذ ان يُعلن يسوع عن موته القريب. شعروا ان هذا الاعلان هو بمثابة نهاية مشروعه وفشله. أخذهم الحزن، لكن يسوع إعترض عليهم وأشار بقوة الى ان الرجاء هو في هذا العشاء – الافخارستيا، هذه الهدية القيّمة التي تحمل كلّ ما نتوق إليه. ألا يعني تناول القربان أننا في يسوع ويسوع فينا لكي نتقدم نحو القيامة والحياة الأبدية؟ يقول الرسول يوحنا: “اننا نصبح عند ظهوره أشباهه، لاننا سنراه كما هو” (1 يوحنا 3/ 2). لنتأمل في الافخارستيا (القداس) التي نحتفل بها كل أحد ولربما كل يوم، خصوصاً في سنة الافخارستيا التي أعلنها البابا فرنسيس من 3 كانون الأول 2023 الى 3 كانون الأول من العام القادم 2024. |
زمــــن الصــــــلاة صلاتنا يجب أن تعكس الواقع الذي نعيشه، فعالمنا ومن ضمنه العراق يعيش صراعات وحروباً تؤثر علينا جميعاً، لذا ينبغي ان نكرّس في هذا الزمن وقتاً خاصاً للصلاة الشخصية والجماعية. هذه الصلاة تقودنا الى يسوع، حامل السلام، كما قاد النجمُ المجوس الى حيث كان. الصلاة تعبير قويّ عن حضور الله للاصغاء اليه، والسجود له، والشكر على النِِعَم والبركات التي يُغدقها علينا. لنهلّل هلليلويـــا هلليلويـــا. علينا ألّا نقلق عندما نختار صلاةً قصيرة، بل لنركزّ عليها انتباهنا بعيداً عن التشتت، ولا نغيّرها بعبارة أخرى. لنتلوها بصوت خافت ونَدَعها تنحدر الى قعر قلوبنا.. مثل هذه الصلاة العميقة سوف تجلب لنا السلام والفرح، وستنعكس على من هم حولنا. كذلك تفتح الصلاة قلوبنا لممارسة أعمال المحبة والرحمة، تجاه الفقراء، ماديّاً ومعنويّاً. نصوص البشارات، طريق الى الله: “لَهُ اسْمَعُوا” (لوقا 9/ 35) من الضروري ان نصمت أثناء قراءة نصوص البشارات لزكريا/ اليصابات، ومريم/ يوسف، باعتبارها بشارات لنا، خصوصاً اننا سنبدأ صلاة التبريكات في الأول من كانون الاول. فنُ الاصغاء مهم لكي نتمكن من سماع صوت الله ليقودنا الى تغيير حياتنا على مثال اُمّنا مريم المُصغية والمتأملة: “كانت تحفظ كل هذه الأمور وتتأملها في قلبها” (لوقا 2/ 19). التأمل، يعني البحث عن معنى الأشياء والأحداث لنفهم ما يحصل بوضوح. وهذا ليس أمراً سهلاً. أولئك الذين يعرفون كيف يرحّبون بكلمة الله، ويصغون اليها داخل أنفسهم، هم وحدهم من يسندهم الله، ويُخرجهم من معاناتهم، ويحميهم مثل إبراهيم والأنبياء ومريم ويوسف… هؤلاء بالرغم من هشاشتهم البشرية، يعيشون في النور والسلام والحيوية، ويُبدعون ويخلدون… عليه فلنصغِ اليه بامعان وهو من سيهتم بنا: “اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟” (متى 6/ 26). كلُّ شخص هو فريدٌ حقاً في عيون الله لذا يتحتم عليه ان يعرف قدره وقيمته! |
صـــلوات مقترحـــــة
صلاة: “ابانا الذي في السموات…
إبتهال: يا رب ارحمني، يا رب ساعدني يا رب إحمِني..
دعاء: تعال ايها الرب يسوع، وامكث معنا، فنحن بحاجةٍ إلى أن تبقى معنا وتدُلَّنا سواءَ السبيل، أنت القوة التي تمنحُنا النور في دربِ هذه الحياة.
صلاة لامّنا مريم: السلام عليك يا مريم الممتلئة نعمة، الرب معك….
ترتيلة: في ظل حمايتك نلتجيء يا مريم، لا تردّي طلبتنا عندما ندعوك.
أدعو الله أن يكون زمن البشارة – المجيء والميلاد، لكلِّ واحدٍ منّا، فرصة لاختبارٍ ايمانيٍّ عميقٍ ومُفرح، مثلما كان لمريم ويوسف والرعاة والمجوس، وان نعيش بالسلام الذي أعلنه الملائكة يوم ميلاد يسوع، وبمحبة كاخوة واخوات بعيداً عن العنف والكراهية والحقد.