الصلاة هي: البحث عن المعشوق
المطران المتقاعد رمزي كرمو
اسطنبول 23 تشرين الثاني 2023
لا صلاة مسيحية إذا لم يكن محرّكها الأساسي البحث عن المعشوق حتى اللقاء به. أما المعشوق فهو يسوع المسيح، العريس الذي بذل ذاته من أجل عروسه، الكنيسة. هذا ما نفهمه من الرسالة إلى أهل افسس.”أَيَّها الرِّجال، أَحِبُّوا نِساءَكم كما أَحَبَّ المسيحُ الكَنيسة وجادَ بِنَفسِه مِن أَجْلِها لِيُقدَسَها مُطهِّراً إِيَّاها بِغُسلِ الماءِ وكَلِمَةٍ تَصحَبُه، فيَزُفَّها إِلى نَفْسِه كَنيسةً سَنِيَّة لا دَنَسَ فيها ولا تَغَضُّنَ ولا ما أَشْبهَ ذلِك، بل مُقدَّسةٌ بِلا عَيب” (5/ 25-27).
وهذا أيضاً ما نقرأه في إنجيل يوحنا بخصوص شهادة يوحنا المعمدان ليسوع: “مَن كانَت لَه العَروس فهوَ العَريس. وأَمَّا صَديقُ العَريس الَّذي يَقِفُ يَستَمِعُ إِلَيه فإِنَّه يَفرَحُ أَشدَّ الفَرَحِ لِصَوتِ العَريس. فهُوذا فَرَحي قد تَمَّ” (3/ 29). وكذلك متى في إنجيله يعطي ليسوع لقب العريس حينما يسرد لنا مثل العذارى العشر “وبينَما هُنَّ ذاهِباتٍ لِيَشتَرينَ، وَصَلَ العَريس، فدخَلَت مَعَه المُستَعِدَّاتُ إِلى رَدهَةِ العُرْس وأُغلِقَ الباب” (25/ 10). لنتذكر أن جوهر الصلاة المسيحية هو حُبّ اللقاء، هذا الحُبّ الذي يجعلنا ان نكتشف بفرح كبير المعنى العميق لحياتنا ويقودنا في الطريق الصحيح للبلوغ إلى هدفنا السامي والنهائي. لنقرأ ونتأمل: “وسَمِعتُ مِثلَ صَوتِ جَمعٍ كَثير ومِثلَ خرَيرِ مِياهٍ غَزيرة ومِثلَ دَوِيِّ رُعودٍ شَديدةٍ يَقول: هَلِّلويا! لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَنا القَديرَ قد مَلَك. لِنَفرَحْ ونَبتَهِجْ! ولْنُمَجِّدِ الله، فقَد حانَ عُرسُ الحَمَل، وعَروسُه قد تَزَيَّنَت وخُوِّلَت أَن تَلبَسَ كَتَّاناً بَرَّاقاً خالِصاً. فإِنَّ الكَتَّانَ النَّاعِمَ هو أَعْمالُ البِرِّ الَّتي يَقومُ بها القِدِّيسون” (رؤيا 19/ 6 – 9).
هذا المفهوم عن الصلاة يجعلنا نقول: أن الصلاة المسيحية هي خبرة عملية وليست فكرة مجردة أو معرفة نظرية لا صلة لها بحياتنا اليومية، أنها خبرة لقاء العريس بالعروس. من المؤسف حقاً أن تكون الصلاة قد فقدت في ايامنا هذه معناها الصحيح ومفهومها الحقيقي وأهميتها الكبيرة وتحولت إلى مجموعة كلمات ننطق بها بواسطة لساننا وتخرج من فمنا وليس لها أي عمق في حياتنا اليومية، أي أنها لا تنبع من القلب. أما الصلوات الطقسية، ومن ضمنها القداس الالهي الذي هو مصدر وقمة حياتنا المسيحية، أصبحت عادة أو واجب مفروض علينا نؤديها بصورة روتينية من دون أن يكون لها أي تأثير على مجرى حياتنا.
ان الصلاة التي ليس لها جذور في القلب ولا تصدر منه فهي عديمة الفائدة. أن الصلوات الطقسية لكنيستنا المشرقية تذكرنا كل يوم بحياة هؤلاء الشهداء الأبطال الذين عشقوا ربنا والهنا يسوع المسيح عشقاً عارماً ومن أجل اللحاق به قاسوا أشد العذابات وتحمَّلوا أقسى الآلام وذاقوا أبشع أنواع الموت، لنتأمل في هذه الترتيلة الجميلة التي نتلوها أثناء صلاة الصباح كل يوم أربعاء والتي تقول: “أيها الشهداء أبناء النور الذين كرهوا العالم وخيراته، وأحبوا الختن السماوي، أطلبوا وتضرعوا من أجلنا من ربكم الذي أحببتموه ليترحّم علينا ويخلّص نفوسنا”.
ولنتذكر أيضاً الترتيلة الأخرى التي تركها لنا الشهيد الكبير الجاثاليق البطريرك مار شمعون بر صباعي والتي كانت تُرتَّل أثناء الاستشهاد والتي نرتلها كل يوم في صلواتنا الليتورجية: “بك يا رب الكل نعترف ولك يا يسوع المسيح نسبّح لأنك أنت محييّ أجسادنا وأنت مخلّص نفوسنا”. إن محبة هؤلاء الشهداء العظام ليسوع المسيح وشوقهم للقائه في مجده السماوي كان ثمرة الصلاة التي كانت تغذي حياتهم اليومية وتثمرها. أن الصلاة بالنسبة لهم كانت خبرة تُعاش في رسالتهم الرسولية والتبشيرية. بواسطة الصلاة كانوا ينقلون يسوع الحي إلى العالم وليس نظريات فلسفية أو عقايد لاهوتية جامدة لا علاقة لها بالحياة اليومية.
هنا يسرني أن أقتبس مقطعاً عن الصلاة من كتاب “الروحانية المشرقية” تأليف غبطة أبينا البطريرك الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو، حيث نقرأ: “مسيرة الأيمان مطبوعة بالصلاة، لأن الإيمان يقود ألى الصلاة ، مثلما يقود النهر الى البحر. من لا يصلي لا يفهم الإيمان. الصلاة لا تنفصل عن الحبّ، ومن يعرف معنى الحبّ هو وحده يقدر أن يصلي لا بشفتيه فحسب بل بكل كيانه. الصلاة تعني أن الله حاضر في حياتنا فهي تُعبّر عن الإيمان والحبّ. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “ليس هناك ما يضاهي الصلاة أنها تجعل مستطاعاً ما هو مستحيل، وسهلاً ما هو عسير، يستحيل لمن يصلّي أن يرتكب الخطيئة” (أنتهى الاقتباس).
بما أن الصلاة المسيحية هي عمل الروح القدس في قلب المؤمن، فلنصلِّ إليه طالبين أنواره ومواهبه كي نزداد يوماً بعد يوم تعلُّقاً بيسوع المسيح العريس وحباً له، آملين أن تكتمل فرحتنا بلقائه في العرس السماوي.
أرجو من الذين يقرأون هذه الأسطر أن يصلّوا من أجلي كي أعيش ما تبقى لي من الحياة الزمنية بالإيمان والرجاء والمحبة وشهادة الحياة حتى النهاية.
مع الشكر،
ولنبقَ متحدين بالصلاة، رباط المحبة الذي لا ينقطع