العراق الحقيقة والرؤية والمستقبل
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
الحقيقة
كان العراقيون يتطلعون الى واقع جديد بعد سقوط النظام السابق، الى حالة من الأمان والسلام والاستقرار، والديمقراطية والحرية، وتوفير الخدمات، وتطوير مؤسسات الدولة الاقتصادية والتربوية والتعليمية والصحية والإدارية، لكن سرعان ما تراجع المشهد، وخابت الآمال، على مَرّ الحكومات المتعاقبة، مما خلق قطيعة بين الشعب والطبقة السياسية.
توالت السنون وأصبح الوضع كارثياً للعراقيين المسيحين بشكل خاص. لقد غدوا مكوناً صغيراً، يعيش في قلق كبيرـ بسبب ما يواجهون، بنحو صارخ، من التهميش والمضايقة وحتى الاضطهاد.
السياسة أداة ضرورية لإدارة الدولة. السياسة يُفترض ان تسخّر لخدمة حياة المواطنين، بعيداً عن مصالح شخصية وحزبية وفئوية تُفشل مشروع بناء الدولة بناءً صحيحاً. ما نشاهده، بأسف، هو ان معظم المحسوبين على السياسة يفهمون ان السياسة هي لعبة المصالح، في حين أنهم يتناسون ان السلطة لا تدوم والمال لا يدوم والمتعة لا تدوم، ما يدوم هو محبة الناس وخدمتهم ومساعدتهم بالأفعال وليس بالأقوال.
الدستور نص مهم أساسي لإدارة الدولة، وتمشية الاُمور الحياتية للمواطنين بشكل أكثر انسجاماً مع احتياجاتهم، وتحقيق العدالة. والحال، لا استقرار ولا تقدم من دون العدالة، وغياب العدالة يعني تحول البلد الى غابة. وقد كثرت الأمثلة في هذا الشأن، بنحو واضح للعيان1.
أدناه بعض العقَبَات أمام تقدم العراق:
- الفساد المستشري في مؤسسات الدولة.
- المحاصصة السياسية التي شلت الحكومة في أداء دورها الاساسي.
- ما شهدناه من مافيات الفساد، وعمليات الاحتيال على العقود والمشاريع خلقت شبكة من المصالح والنفاق.
- الميليشيات المسلَّحة التي لا تنصاع لأمر القائد العام للقوات المسلحة وبعضها يتصرف كأنه الدولة!
- ظاهرة التطرف الديني كتنظيم القاعدة وداعش…
- التدخل الإقليمي والدولي السافر في الشأن العراقي الداخلي، بعيداً عن سياقات التفاهم السيادي على المصالح المتبادلة بين العراق وبينها.
الرؤية والمستقبل
يتم إصلاح النظام السياسي بإلغاء المحاصصة بكل ألوانها، وتوفير الخدمات العامة، واختيار الوزراء وكبار المسؤولين ممن لهم الكفاءة والقدرة، والمشهود لهم بالنزاهة والإخلاص وهم كُثر في البلد. وعدم السماح لأيٍّ كان بممارسة الضغوطات على الحكومة لتنفيذ أجندات خاصة به او بحزبه او مكوّنه، وذلك وفق القاعدة الذهبية: الجميع متساوون في الحقوق والواجبات.
بهذه “الروح” أي الطاقة الإصلاحية والديناميكية تضمن الحكومة نجاحها في تحقيق برنامجها من دون معوقات كبيرة، فضلاً عن خلق وعي مجتمعي فعّال من خلال الإعلام المهني النزيه، وعِبر وسائل التواصل الاجتماعي لكسب ثقة الشعب وبخاصة الجيل الناشئ ونبذ الخطاب الإنشائي الذي يؤخر ولا يقدم!
أخيراً معالجة جذرية للتطرف الديني. ينبغي السعي في إيجاد وسائل استيعاب أشمل للتعاليم الدينية الأصيلة السمحاء، وليس التقاليد الموروثة، وصياغة هذا التعليم بمفردات مختارة ومفهومة تتماشى مع ثقافة الناس وواقعهم الحالي. ذلك أن منطق “دار الإسلام ودار الحرب” يتقاطع مع رسالة الديانات لتكون دار السلام واحترام التنوع والتعددية. الحرب غباء الشعوب كما نرى المجازر البشرية بين إسرائيل وفلسطين، وروسيا واوكرانيا. هذه الانثروبولوجيا الدينية، المرتبطة بنحو غير منطقي، مع اُطر تاريخية في زمن سابق، تهدد السلام العالمي والعيش المشترك.
وبعد، لا بدّ من اعتماد الحداثة في المجال الديني، وفصل الدين عن السياسة. الديانة للأفراد وليست للدول. لأن تسيس الدين كارثي على الدين وقيمه السامية. وثمة أهمية كبيرة للحوار والتعاون بين الأديان، وإشاعة قيم الاُخوّة كما دعت إلى ذلك “وثيقة الاُخوّة البشرية” الموقَّعة بين البابا فرنسيس وشيخ الأزهر في 4 شباط 2019 في أبو ظبي؛ وكذلك مقولة الإمام علي “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق” (نهج البلاغة جزء 3 ص البلاغة ص 84) وأيضاً عبارة اية الله العظمى السيد علي السيستاني قبيل زيارة البابا فرنسيس للعراق 5-8 اذار 2023 “نحن جزء منكم وانتم جزء منا“، أي اننا إخوة!
___________________________________________________________________________________
1 قررت المحكمة الاتحادية صحة سحب المرسوم من الرئيس الأعلى للكنيسة الكلدانية. كيف يصح لرئيس الجمهورية رمز الدولة وحامي الدستور ان يسحب المرسوم منه، ويبقيه لرجال الدين اقل درجة من البطريرك؟ كان الرئيس قد صرح أثناء زيارته لإيطاليا قبل عشرة أيام من صدور قرار المحكمة، انه سيكون لصالحه، أليس هذا تسييساً خطيراً وإرهاباً ناعماً؟
في حال عدم إرجاع المرسوم الى البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو، سترفض البطريركية الكلدانية تقبُّلها التهاني في عيد الميلاد المجيد (25 كانون الأول 2023) من أي مسؤول سياسي، وسوف لن نستقبل أحداً منهم في الصلاة ليلة عيد الميلاد في كنائسنا ببغداد كما كانت العادة في السنوات الماضية! كما أن الكنيسة الكلدانية ببغداد سترفض المشاركة في أي نشاط حكومي.