عظمة الإنسان وشقاؤه
المطران حبيب هرمز
(رئيس أبرشية البصرة والجنوب)
هذا عنوان رسالة البابا فرنسيس في حزيران الماضي في الذكرى المئوية الرابعة لولادة العالم الفيزيائي باسكال. ولأهمية الرسالة في أيامنا، أدناه خلاصة سريعة.
ركز فكر باسكال (الفرنسي الأصل ولادة 1623م) على العنوان أعلاه وهو يبحث عن الحقيقة بعقله ضمن مجالات الرياضيات والهندسة والفيزياء والفلسفة. ورغم تفشي الشكوك في مجال الإيمان في ذلك القرن لكنه تعمَّق في نعمة الله وهو يبحث أجوبة عن من هو الإنسان. تمتع العالم باسكال بتواضع كبير مقتديا بالرب يسوع المسيح، حيث انفتح نحو واقع الحياة في كل أبعادها ومتفاعلاً معها بإيجابية وهو يبذر بذور الملكوت. وقد نذر نفسه لخدمة الفقراء وفق مبدأ المحبة الذي وجده في الكتاب المقدس.
يقول البابا فرنسيس “يبقى لنا باسكال رفيق درب، يرافقنا في بحثنا عن السّعادة الحقيقيّة، ويرافق، وفقًا لهبة الإيمان، اعترافنا المتواضع، والمليء بالفرح، بيسوع القائم من بين الأموات”.
كان باسكال يؤكد أن لا فهم للبشر عن الله والحياة إلّا بيسوع المسيح. وقال ان الله والحقيقة لا ينفصلان، لكن الإنسان بحاجة الى النعمة كي يدرك أن المسيح هو الطريق والحق والحياة. من هنا فالمسيحية تجعل الإنسان يعرف كم هو محبوب.
لقد استفاد من ذكائه ليدرك عظمة العقل البشري ومعنى الوجود والحياة المسيحية. انفتح الى الوحي بوسائل فلسفية وفكر لاهوتي قيد الدراسة الى اليوم. طابق الإيمان مع العقل رغم قناعته ان الإيمان يتفوق على العقل. كان معجبا بحكمة الفلاسفة اليونانيين الذين احبوا البساطة والهدوء. لكن هو ركز على الواقع أولاً ثم الفكر. اعتبر باسكال أن ما يجده الحيوان طبيعيا فهو لدى الإنسان شقاء. هذا لأن الأخير لا يكتفي بإشباع غرائزه أو مقاومتها. الشر مستفحل في الإنسان ويصل به الى الفناء الدائم. وكي يتناسى ذلك يلهو (الإنسان) بنفسه في ضوضاء وحركة، واذا رفض سيشعر بالفراغ واليأس.
لا حل إذن إلا بقوة الله. يحصل الإنسان على النور بحيث يستكشف العظمة من جهة والدناءة من جهة اُخرى. من هنا تأمل باسكال في الكتاب المقدس وتاريخ الوحي والتدبير الإلهي بكل تواضع وآمن بقوة بتاريخ 26-11-1654 في ليلة اختبر ذلك سماها “ليلة النار” شبهه بلقاء موسى مع الله في العليقة المحترقة (طالع سفر الخروج 3). انه اله ابراهيم واسحق ويعقوب لا اله الفلاسفة.
آمن باسكال بأن الهنا هو اله الفرح هو اله أشخاص وقد اختبر حب المسيح بكل تواضع “إنَّا لا نعرف الله إلّا بيسوع المسيح. بدون هذا الوسيط، ينقطع كلّ اتّصال مع الله“. هنا قدرة العقل والإيمان معاً في الإقتداء بالمسيح؛ انه النور لمن يريد أن يرى. النظام الإلهي هو فوق العقل ولكن بنور الإيمان نتقدم في المدرسة الإنسانية المسيحية. وهذا الإيمان لا يلغي الخوف من الموت لكن يساعدنا على مواجهته بنور القيامة.
ثم يذكر قداسة البابا فرنسيس علاقة باسكال بالجانسينية المتأثرة بالقديس اوغسطينوس (ق 5م) الذي أساؤوا فهمه. هؤلاء خلقوا جدالاً مع اليسوعيين آنذاك حول مسألة نعمة الله وعلاقة النعمة بالطبيعة البشرية وحرية الإنسان. هنا اصدر باسكال 18 رسالة كشف عن وجود كتابات للجانسينيين تُعارض الإيمان. لقد تطابق فكر باسكال بخصوص النعمة مع ما كتبه مار بولس في رسالته الأولى الى طيموثاوس ان الله “يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ” حيث يؤكّد على دور النعمة لا كبدعة “البيلاجيانية الجديدة” التي تدَّعي أن كل شيء يعتمد على الجهد البشري.
كما اكد باسكال على المحبة من خلال ادراك الطبيعة ان سعادة وجودها تعرفه من خلال علاقتها بالله الخالق. تأكيده هذا هو لأنه عرف فرح الإنجيل ودور الروح في شفاء الإنسان ودعوته الى مائدة الملكوت.
كتب باسكال صلاة طلب فيها من الله ان يلهمه كي يحسن التعامل مع المرض الذي اُصيب به. وعندما تناول القربان المقدس قال “لا يتركني الله ابداً“.
يختتم قداسة البابا رسالته بهذا الرجاء: ليكُنْ نور عمله ومثال حياته المتأصّلة في يسوع المسيح عوناً لنا لنتابع مسيرتنا حتّى النّهاية إلى الحقيقة والتّوبة والمحبّة، لأنّ حياة الإنسان قصيرة جدًاً: “فرح أبدي ويوم استعداد واحد على الأرض”.