الكنيسة في العراق جسم مبعثر!
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
الكنيسة واحدة جامعة ومتنوعة
أسَّس المسيح الكنيسة على إيمان بطرس والرسل. ومنذ تأسيسها، فإن الكنيسة جامعة في نظرتها لِذاتها ورسالتها، وفي انفتاحها. إنها مَدعوّة بقول المخلص: “اِذهَبوا في العالَمِ كُلِّه، وأَعلِنوا البِشارَةَ إِلى الخَلْقِ أَجمَعين” (مرقس 16/ 15). ولهذا أؤكد، وبرغم كل ما تعيشه الكنيسة في العراق أو في العالم، أومن بان الكنيسة واحدة في الجوهر، مهما كانت التسميات وتباعدت المسافات.
في الكنيسة يوجد ما هو حقيقي يعبّر عن الروح، وما هو آنيّ – عملي مرتبط بظروف الزمان والمكان، ينبغي تحديثه دائماً للتعبير عن رسالتها بلغة الحاضر، وتجسيد حقيقة إيمانها بأشكال مناسبة والشهادة له بفعاليّة، طالما أرادت أن تكون حاضرة.
الأمانة للكنيسة الأم
الكنيسة حقيقة إلهيّة روحيّة مقدّسة، لكنها جماعة بشرية منظورة تسعى للقداسة، خاضعة للخطأ والخيانة والانشقاق منذ زمن يسوع والتلاميذ وعلى مَرّ العصور.
الأمانة للكنيسة الاُم واجب بَنوي. علينا أن نحبّها، ونحترم سلطتها التعليمية، ونعمل بنضج أكبر للحفاظ على وحدتها الجوهرية، والمساهمة في تقدّمها وليس في إنتقادها والتشكيك فيها.
من المؤسف جداً أن ينجرفَ بعض الاكليريكيين والمؤمنين الى تيارات بعيدة عن دعوتهم وكنيستهم الاُم ومكانتهم فيها. كيف يسمح كاهن لنفسه أن ينكث “العهد الروحي- الوجداني” لرسامته وقد أعلن إيمانه وطاعته لاُسقفه، (والاُسقف لبطريركه، والبطريرك الكاثوليكي للحَبر الأعظم)، ويكتب عبارات تجديفية على الكنيسة ورؤسائها؟ كيف يقف بعض الأفراد ضد الكنيسة، ويدعمون ميليشيا معينة مكشوفٌ فسادها؟ أما يوشك من يسمي نفسه خادم الرب أن يتحول الى خادم الشيطان؟ وثمة من لا يكفّون عن البكاء على الطقس، بادعاءات أكاديمية أو تقليدية، بدل أن يبكوا على ضياع الإيمان؟ إضافة إلى الانشطارات المُحزِنة في بعض الكنائس، وتسرُّب بعض الكهنة الى كنائس غير رسولية. وما وقْع ما يرددونه في الليتورجيا، بغير ما إنتباه، من طلبات للرحمة والتوبة؟
هذا الانقسام هو نتيجة
الأوضاع تغيرت عن السابق، فالناس تغيَّروا والثقافة تغيَّرت والمجتمع تغيَّر. وظهور التطرف الديني والإرهاب، هجَّر نحو مليون مسيحي من العراق، خصوصاً النُخبة الفكرية والاقتصادية وممَّن لهم مهارات… وبقي ما لا يزيد عن نصف مليون في العراق موزَّعون في المدن والبلدات وهم إما من الطبقة الوسطى (الموظفون والاعمال الحرة) أو الفقيرة…
إليكم جملة مؤشرات عن هذا الواقع
- الجهل والثقافية الدينية السطحية عند المسيحيين بسبب ظروف الكنائس أيام زمان، جعلت اهتمامها يقتصر على الطقوس، بدون ان تتهيأ لها، لتنشئة مؤمنيها تنشئة مسيحية سليمة وثابتة، عبر وسائل تثقيفهم وتوعيتهم بمبادئ إيمانهم بشكل عميق وسليم. أمام غزو وسائل التواصل الاجتماعي تغيَّر كل شيء، وتراجع الإقتصاد العالمي الذي أقلق الناس وأشغلهم أكثر من الجانب الإيماني.
- التطرُّف القومي عند البعض حتى من بين رجال الكنيسة “غدا الهوية”، بعيداً عن الروحانية المسيحية المنفتحة. والتعصُّب من أجل اللغة والطقس والتقاليد الموروثة من دون غربلتها والبحث عن الأصيل، ودون الأخذ بنظر الاعتبار أن هناك عدداً كبيراً من المؤمنين، يتكلم العربية، واللغات الأجنبية في بلدان الانتشار، خاصة الجيل الجديد. هذا الفراغ الفكري والإيماني، خلق أشخاصاً، هم “سوبر قوميّون” يُقصون من لا يقبل أفكارهم.
- المنافسة بين الكنائس، بسبب غياب كاريزما القيادة عند بعض الأساقفة، أي الرؤية والدراية وبرمجة العمل والنشاط. نشكر الله أن ثمة أساقفة قياديين، لا يتنازلون عن رسالتهم الروحية والإنسانية والوطنية. هؤلاء هم الأمل في المستقبل! وذكراهم تبقى جميلة وحيّة في ذاكرة وقلب من عرَفوهم لمحبّتهم وخدمتهم وتجرّدهم.
- كسب المال من هذا التنظيم أو ذاك من دون إدراك أن الثمن سيكون باهضاً وان هذه الأحزاب ليست جمعيات خيرية، إذ لها أجندتها “ترتشيهم” لشراء ولائهم. هؤلاء هم من يقسّم الكنائس، ويخلقون البلبلة بشراء الذمم “بالمال الحرام”، وليست الكنيسة الكلدانية (أو الكنائس الاُخرى التي حافظت على استقلاليتها وتحترم كرامتها) كما زعمت (الوزيرة) في احدى تعليقاتها على لسان نائب رئيس طائفة السريان الكاثوليك، لا أعلم من أين أتت بهذا المنصب؟. الكنيسة الكلدانية لا يشتريها أحد، وهي صامدة في وجه النفاق والظلم، وفخورة بوحدتها والتزامها الإنساني والروحي والوطني.
- محاولة الأحزاب (المسيحية) تطويع الكنيسة لدعمها.
أسباب التشتت هذه لا ينبغي تجاهلها، لأنها لا تسمح برؤية مسكونية واضحة، وخطة عمل جماعية مدروسة لتوحيد موقف الكنائس وخطاباتها. على الإكليروس خصوصاً الأساقفة أن يكونوا أصحاب مبادئ وان يكون انتماؤهم الوحيد للمسيح والخدمة السخيّة لإخوتهم بتجرد وإخلاص بعيداً عن الاصطفاف النفعي الأعمى مع هذا الطرف السياسي أو ذاك.
السؤال المطروح هو كيف يتعيّن على الكنائس تجاوز التوترات ولمّ شمل بناتها وأبنائها والحفاظ على وحدتها ودورها وحضورها النبوي وسط التغييرات المتسارعة والتحديات الكبيرة؟ اعتقد أن هذا يحصل
بالانفتاح والقبول والمشاركة والحوار
والتخلي عن الأفكار الثابتة والأحكام المُسبَقة، مما ينعكس على المسيحيين وغيرهم
مجلس رؤساء الطوائف (الكنائس)
الذي تشكَّلَ عام 2006، ليس بديلاً للكنائس، إنما هو شكلي fictional بروتوكولي، غير مُعترَف به رسمياً. لا أداء له في الواقع، حتى أنه غير قادر على إصدار بيان معين!.
اقترحتُ عليهم أن تكون التسمية مجلس كنائس العراق وليس طوائف، لم يقبلوا. وعندما صرتُ بطريركاً دعوتُهم الى اللقاء عدة مرات لإعادة النظر في النظام الداخلي حتى ينسجم مع الواقع الحالي، خصوصاً في توحيد المواقف والخطابات التي تهتم بشأن المواضيع المشتركة، من دون التدخل في خصوصية الكنائس. واقترحتُ أن تكون هناك هيئة تنفيذية يمثل كلّ كنيسة فيه رجل دين، وجمعية عامة يشترك فيها كل الأساقفة، لكن هذا لم يحصل، فانسحبنا منه.
إن ما أشرتُ إليه، أعلاه، في اللقاء الكنسي الشامل تحت مظلة مجلس كنائس العراق ممكن، عندما تلتف الكنائس حول الكنيسة الكلدانية التي تشكّل ثقلاً (80% من مسيحيي العراق) وحضوراً ومؤسسات ومواقف، وحول بطريركها المتقدم بين الإخوة لتَدارُس المواضيع المشتركة التي تخصّ بلدنا وشعبنا المسيحي، مثلما هي الحال للكنائس ذات الكثافة الأكبر في مصر ولبنان وسوريا والأردن.
كنائسنا تحمل في جسدها الآم المسيح، من خلال شهدائها الكُثُر، لذا يتعيَّن عليها اليوم أن تعكس قوة القيامة والتجدد والحياة.