“اتبعني”
الدعوات للتكريس
المطران حبيب هرمز
مقدمة
لماذا هذا المقال القصير؟ الموضوع مهم لأن الفَعَلَة في كَرْمِ الرب قليلون رغم الدعوات. إنها محاولة للتَبحُّر في مغزى الدعوة التي كرَّسنا لها حياتنا، والرغبة في إيقاظها لدى أحباءنا من الجيل الجديد. نعترف بوجود تحديات كثيرة نتيجة الجانب السلبي للعلمانية الداعية الى عبادة الذات، والهجرة وتشتت أبناء الكنيسة ولكن هذا لا يمنع إنضمام العديد من شبابنا وشابّاتنا الى المؤسسة الكنسية وتكريس حياتهم لإعلان بشارة الإنجيل.
“اتبعني” كلمة إلهية نزلت على متَى العشار فترك كل شيء وتبعَ يسوع المسيح في بداية رسالته الإلهية. ماذا كان يسعى إليه يسوع؟ نحن نؤمن ان هدفه ان يصبحَ الإنسان إنساناً. لقد اختار في البداية 12 تلميذاً رافقوه لثلاث سنوات لم تختتم بالعشاء الأخير (الفصحي) بل التقى بهم (عدا يهوذا) بعد القيامة ونفخ فيهم الروح القدس، وأرسلهم الى العالم ليحملوا رسالته. وهؤلاء، ومن وضعوا عليهم أيديهم، أسسوا الكنائس في كل أنحاء العالم وكانوا ولازالوا شهود الإيمان. اليوم شبابنا وشابّاتنا لديهم دعوة لإدامة هذه الرسالة المقدَّسة بعد 2000 سنة.
حتى وان بدأنا المقال بأحداث إنجيلية ولكن يجدر ان نذكر النبي صموئيل الذي دعاه الله وهو طفل صغير وغيره من الأنبياء الكبار والصغار. فهذه الدعوات لم تقتصر على الرجال بل النساء، على الكبار والصغار، لأن الرب يطرق أبوابنا طالباً الدخول مهما كان عمرنا.
تساؤلات عديدة تخطر في بالنا ونطرحها سائلين القُرّاء أن يتأملوا فيها لأن كنيستنا بحاجة ماسة الى الدعوات. الكنيسة الكلدانية تتوسع يوماً بعد يوم وتزداد الحاجة الى مكرَّسين ومكرَّسات.
نص من الإرشاد الرسولي Christi fideles laici للبابا يوحنا بولس الثاني سنة 1988
يقول الإرشاد الرسولي عن العلمانيين المؤمنين بالمسيح: ويقضي تبشير الشعوب بالإنجيل أولاً بتَوَفُّر الرُسُل. وفي هذا السبيل، يتوجَّب علينا جميعاً، بدْءً بالاُسَر المسيحية، الشعور بمسؤوليتنا عن تشجيع نشأة دعوات إرسالية، بنوع خاص، سواء كانت كهنوتية أو رهبانية أو علمانية، وإنضاجها، مستعينين بكل الوسائل المؤاتية، غير مهملين الوسيلة المفضَّلة، أعني بها الصلاة التي أوصانا بها الرب يسوع: “إن الحصاد كثير، أما الفَعَلَة فقليلون. فاسألوا ربّ الحصاد أن يُرسل فَعَلةً لحصاده” (متى 9/ 37 و 38).
الدعوة
الدعوة هي رغبة يسوعية شخصية لكل واحد منّا للعمل في كرْمِه الواسع وسع الأرض كلها. قد تصل الدعوة من خلال صوت داخلي، أو بواسطة الأب الراعي، أو أحداث شخصية، أو الوعي بطبيعة الإنسان. والحاجة هي لإيصال صوت يسوع الى من لم يسمعها ويفهمها.
كما دعا المسيح التلاميذ بأسمائهم كذلك نحن، انه يدعونا بالإسم، فهو الذي قال: “اذهبوا أنتم أيضاً إلى كرْمي” لذلك هي موجّهة إلى كل منّا شخصياً. وهناك من يقبلها بسرور وسخاء وفرح وحماس لغرض المشاركة الحية والواعية والمسؤولة. انه تحمُّل مسؤولية كبيرة في بناء الملكوت من هنا كما علمنا الرب في الصلاة الربيّة: “ليأت ملكوتك”. صحيح هناك البعض الذي يقول “أنا أخدم من موقعي في اختصاصي كطبيب أو مهندس أو مدرّس أو فلاح أو موظف دولة” لكن هنا اكثر فعالية وشمولية ونفوذ الى عمق الأحداث المتحكّمة في مصير البشر الذين ابتلوا بالخطيئة.
خبرة شخصية
قد يدعونا الرب ونحن صغاراً، هذا حصل لأحد الأساقفة حيث كان كاهن الكنيسة يدعوه ان يصبح كاهناً إضافة الى رؤيته لجده وجدته في القرية وهما في حالة ركوع وأيديهما مرفوعة نحو السماء مستغرقان في الصلاة. وهناك من يقرر تكريس ذاته وهو في العقد الثالث أو الرابع. والعديد منّا مثلاً يعلم دعوة القديس اوغسطينوس وهو بالغ بالعمر.
المدعو لديه رسالة خوض مغامرة في سرّ الحياة، سرّ يسوع المسيح. حتى الكنيسة هي سرّ أيضاً؛ إنها سرّ محبة الآب والإبن والروح القدس، والمدعو له شرف الخدمة فيها بكل فرح رغم النتائج غير المتوقعة ومنها الشهادة بالدم كما استشهد الأب رغيد. طبعاً هذا ليس بالسهل ولكن مع الرب كل شي يسهل. المدعو يقضي سنوات في الدير الكهنوتي ويدرس الفلسفة واللاهوت ومواد اُخرى كلغة اجنبيه ويتعرف على مختلف العلوم والآداب والفنون ليكون قائداً وسط مجتمعه. وهذا يتطلب من المدعو أن يدخل مدرسة الحب، حب يسوع وشعبه وكنيسته، فنجد تلاميذ المعهد يستغرقون في صلوات وتأملات في معنى الحياة والخدمة في ضوء الإنجيل. المدعو يستثمر مواهبه ودراسته وهواياته. باختصار، انه مدعو الى الكمال رغم ضعفه البشري لأنه في ضعفه تكمن قوة المسيح.
المكرَّس وسرّ الزواج
إن المسيحي، ككل البشر، مدعو للعيش في شركة مع الآخرين. وان كل أسرار الكنيسة هي مقدَّسة وهنا نشير الى سرّ الزواج الذي يعتقد البعض انه حاجز أمام قبول دعوات عديدة. اليوم الكرسي الرسولي والكنيسة الكلدانية لا تقف بوجه هذا السرّ ليحتفل به المكرس قبل رسامته الكهنوتية. ولدينا نماذج رائعة من رعاة متزوجين يخدمون بفعالية ونشاط. إن ثمار النعمة نجدها في كل أسرار الكنيسة. الكنيسة اختصاصها الخدمة بمحبة، ولا يوجد أروع من أعمال المَحبّة كما يفعل مكرّسوها رغم ضعفهم البشري حيث يصلّون يومياً ليسوع أن يبقى معهم كما كان يصلّي القديس باتريه بيو. المسيح هو الكَرمة ونحن الأغصان فكيف نُثمِر إن لم نثبت فيه. وأعظم ثبات هو التلمذة المباشرة كما يحصل في حالة قبول الدعوة.
ما المطلوب
مَنْ لديه الرغبة يفترض أن يدركَ أنها رغبة المسيح قبل أن تكون رغبته، فينظر الى محدوديته ولا يخاف لأن الرب معه ويقول له “لا تخف“. هو محدود ونحن محدودين. لكن ما أحلى الحياة حيث يتواجد روح الله فلا ندع معرقلات تمنع من التقدم نحو طريق الحرية بالمسيح. على المتقدم أن يكون صادقاً مع مشاعره ويصبر على آلامه لأن هناك الهجرة القاسية وظروف البلد الصعبة. فقط بالحب نتجاوز المعرقلات. أن يقف المدعو على قدميه وعيناه نحو الصليب، صليب القيامة. كذلك عليه ان يحدد موقعه في المجتمع لا يقبل الإزدواجية ويكتشف هويته كإبن لله. وكما قال الرب “ان لم تعودوا كالأطفال” كذلك هو ان يتلمس روح البراءة والصداقة الحقيقية لأخوته البشر. هناك اُسقف تعوَّدَ أن يقول كل يوم مرات ومرات “ارحمني يا الله” فهناك يجد راغب التكريس الترحيب من الرب ويتعايش مع أفراحه والآمه وسيجد نفسه محبوباً من كثيرين.
الختام
تبين مما ورد أعلاه كم هو عظيم التكريس لأسمى خدمة في التاريخ كما فعلها القديسون والقديسات بالآلاف. واتضح لنا كيف أن الكنيسة عروس المسيح بحاجة الى مكرَّسات ومكرَّسين، فنتمنى من الآباء الكهنة والأخوات الراهبات والأخوة الرهبان التحدث الى رعاياهم حول هذه النعمة وإدخالها ضمن مواد التعليم المسيحي ووسائل التواصل الاجتماعي. أخيراً أن يتم التحدث عن مكرَّسون أبطال الإيمان لا فقط ذكر السلبيات بل الإيجابيات.