إلى أنظار الحكومة العراقية الموقرة
رؤية تتوخى الشمولية للمشهد الحالي
أ. نوئيل فرمان
تابعت مثل الكثيرين ما ينشر من تصريحات، في جلها غير مؤيدة لسحب المرسوم بشأن بطريرك الكلدان الكاردينال لويس روفائيل ساكو سواء من الأصداء والتصعيدات العالمية، أو ما يصدر او يصدى له في البطريركية. ولعل ما صدر من البطريرك المستهدف في مكانته ومرجعيته، نص مقترح لمرسوم جديد، نراه يكلل بنحو نهائي ما صدر عن البطريركية، وما يصدي للضغوط عن المشهد المذكور. النص، بدون ان يكون إملاء حرفيا، يتناول التأزمين الجسيمين: الاعتراف، وعائدة الولاية على الأوقاف، وبما لا نعتقده يتحمل اي احتمال آخر.
على أن كاتب السطور، يتوخى في هذا المقال، الإشارة إلى أنه لا يجدر ان يحصر الموضوع في زاوية ضيقة، من أشخاص محددين، رئيسا كان أو مرؤوسين، او في لقطة واحدة من لقطات المشهد. وإذ يعرض الأمر بحيادية، فإنه، يشرح ما وصل اليه الأشخاص الذين في واجهة المشهد، وما دفعوا اليه بتراكم الزمن، بينما هم جزء من المشهد العام. فإذا قبلوا الوصف على انفسهم، فهم بعيدون بهذه النسبة او تلك عن أي حول أو قول، وإذا لم يقبلوا بهذا الوصف على انفسهم (بأن لا حول لهم ولا قوة) فحسبهم الثورة على الذات والتخلي، كل بطريقته، عن الواقع الذي، مع الأيام، تم تكبيلهم فيه. ويجرؤ كاتب المقال التفكير، بأن المعنيين، قد يستحقون بالأحرى الرحمة، بألا يقتصر التركيز عليهم حصرا، وعندئذ يكون لديهم المزيد من الاختيار الحر والتبصر المستجد.
الألتفاف من العائلتين الكنسية الكاثوليكية والأرثوذكسية، وسواهما
قبل الدخول في صلب الموضوع، يجدر التعبير عن الارتياح بما أحيطت به البطريركية من التفاف ومناصرة، من العائلتين الكنسيتين الكاثوليكية والارثوذكسية وغيرها، فشاهدنا في اللقاءات قامات شجاعة من الاحبار الكاثوليك، ومن العائلات الكنسية الأرثوذكسية، قادمين من سهل نينوى وكردستان وسواهما. وعدا هذه المواقف خصوصا من العائلة الكاثوليكية، فهو في هذه الشدة، ينظر إليه كابتعاد مؤسف عن الشركة الكنسية تجاه الشأن الكاثوليكي لكنيسة كلدانية ممتحنة ومرتبطة بروما، ولم توشر عليها، حاشا، مثلبة عقائدية او تواطئية من اي نوع، وتنسحب عليهم، قبل أن يأتي دورهم، المؤشرات التي تدفع من تدفع الى التشفي باعتبار الحالة ازمة داخلية بحتة، في حين هي ازمة سياسية – مسيحية.
عودة إلى أصل المأساة، ضمن مشهد الوضع العام: الكمارك مثالا
هذه مقارنة بين مطار بغداد للارتزاق الطائفي والمحاصصة ومطار اربيل ذي السياق الاصولي: إنها آلية غير مسبوقة تنشد طرائق الاكتساب والارتزاق المشرعن من عدة جهات. ويبدو أن هذه الآلية صارت، لازمة متواصلة مع الحكومات المتتالية بعد السقوط. فإذا نظرنا الى الكمارك على سبيل المثال لا الحصر، كحالة لا علاقة لها بالاوقاف. لتبين المشهد العام بلا رتوش، وبما اضفى للأسف على الامور مقبولية تم التعود عليها والتأقلم معها على مضض، بدون ان تكون مشروعة، بل هي غير مقبولة منطقيا وانسانيا. ولهذا يجدر السعي الى ايصال الموضوع الى الرأي العام العالمي بلغات مختلفة، بالانكليزية والفرنسية، وغيرهأ. فلكي يعي القارئ الكريم أبعاد المأساة وخصوصا في بلدان الانتشار، لا بد من امثلة واقعية على الفساد، وصولاً إلى فهم الخلفيات المأساوية لرفع التولية البطريركية القانونية على الأوقاف:
ولندخل في الموضوع: فلقد توفر لي خلال السنوات الماضية، بأن قرت عيني في رؤية أصدقائي زملاء الامس، على تنوع معتقداتهم، مواطني الطيبين والأقارب، وأبناء الكنيسة. توفر لي ذلك لمرات متتالية: 2017، 2018 – 2019 و 2022، ومنذ السنة الاولى شرح لي مقربون، أمام انذهالي، عن آلية الكمارك، عن طرق الاكتساب والارتزاق وتوزيع المكاسب، وبنحو شبه حكومي، رسمي كواقع مستشرٍ في مطار بغداد كواحد من منافذ الحكومة المركزية. ما قاد التجار الى التعامل مع كمارك مطار أربيل. هذا ما سمعته سنة 2017. ولأني في هذه الأيام، حسبت ان الموضوع ربما حدث فقط في الماضي قبل سنوات، وببساطة شديدة، حسبت ان الامور تحسنت، فتوخيت الاتصال بالشخص الذي أخبرني عن آلية الكمارك قبل سنوات، ليشرح لي الواقع الحالي. فقال لي نسيبه: أبونا، أنا ايضا استطيع ان اجعل الموضوع دانيا قريبا منك، فيكون من جانبي ايضا واضحا لديك وفي الظرف الحالي. هنا رحبت بفكرة أن يكون الشرح الداني المقرب من فم شاهدين. ففهمت منه الموضوع وبأمثلة محددة كما يأتي.
لنفرض ان تاجرا عنده صفقة آلاف من الحاسبات ويجلبها عن طريق كمارك مطار بغداد الدولي. هنا يكون الدفع الكمركي خرافيا، بتعامل سيء بنحو فاحش، وبضغوط الى مطالبات ذاتية مصلحية غير معقولة، وبأساليب معوجة، وتأخيرات مقصودة، تقتضي دفع المزيد على الارضية، والغرامات، والاكرامية حتى لبائع الشاي مع الاحترام لكل المهن. لهذا السبب صار، على العموم، ايراد البضائع الى بغداد عن طريق اربيل، للاسباب الاتية:
التعامل في مطار اربيل، هو تعامل مهني اصولي لا غبار عليه، وتقوم به جهات مخولة دوليا، فتكون نفقات الكمرك، مقبولة ومعقولة. بحيث يتم توريد السلعة الى كردستان، بأسعار مناسبة ومجزية، تخفف عن اسعار السلعة اياها عندما توصل عن طريق كمارك مطار بغداد باستغلالها الفاحش.
ومع ان هذه البضائع لدى توريدها الى بغداد، تخضغ الى أتاوات تفرض في كل سيطرة، بعد الخروج من حدود اربيل، منها: سيطرة الموصل، وتكريت وبوابة بغداد، فإن اهون الشرين، أن الآمر هذا يحدث في نفس اليوم. ففي الطريق من اربيل الى بغداد الكعكة نقتسم (بحسب الوصف الفتلاوي للسيدة النائبة حنان، متحدثة عن شؤون آخرى، غير الكمارك) تقتسم بين كل الجهات السياسية الحزبية. كل واحد له سيطرة، وكل واحد ليس له غرض بالمستثمر الحزبي السابق. ويضيف صاحبي: أما الشدة في مطار بغداد، فإنها تتعلق بعامل الوقت والتأخير المقصود والنفقات الحكومية الكمركية الطائلة، مع التفاجؤ بمطالبات استغلالية غير مسبوقة، في كل مرة، وبعيدا عن اي حد أدنى من الحياء الانساني؛ فبات عدم الحياء عاديا. وبالاضافة الى التأخير المتعمد، فهناك تأخيرات رسمية: زيارات موسمية طائفية، حريق، عطلة، الذكرى السنوية لهجوم المطارإلخ…
ولئلا يكون الحديث حصرا عن الاستيراد، حدثني صديقي وبجدارة الخبير، عن آليات فتح مكتب علمي، كأن يكون مذخر الادوية: يدفع ما يسمى الـ “المالات” الشهرية المتفق عليها، بحسب موقع كل مذخر، سواء الجهة السياسية المستحوذة على بغداد الجديدة، او الجهة الاخرى المستحوذة على الكرادة. ولكن المفاجأة هي ايضا أنه بالاضافة، إلى ما يتم دفعه إلى الجهات الحزبية المتقاسمة لمناطق بغداد، فيدفع شيء آخر الى ما سماه صاحبي “الجيش الاتحادي” وهنا لا اعرف ان كانت حصة ما سماه بالجيش الاتحادي فقط ضمن محاصصات مناطق بغداد، ام ضمن السيطرات الخارجية. كما لست أدري ان كان الجيش الاتحادي، جهة محلية، مستقلة عن الجيش العراقي العقائدي الباسل، ذي المهنية العالية، والتابع الى وزير الدفاع، وإلى القائد العام للقوات المسلحة..أي الجيش الاصولي المعول عليه في حماية الوطن وصيانة قانونه ودستوره. الجواب اليقين لدى اصحاب السيادة الوزراء.
الاملاك الكنسية
ونأتي الى بيت القصيد، فيبدو انه لم يعد مقبولا في العرف الحكومي المحاصصي، عدم الحصول على شيء من ريع وقف الكلدان، وهم النسبة الغالبة، من مسيحيي العراق. فأن يستثمر وقف كنسي في الشورجة، او في المنصور، او في الكرادة، بمساحة شاسعة، ولا يعود منه ريع لجهات الاستثمار الحزبي المتنافسة، فهذا أمر بات يلفت الانتباه. سألت صاحبي، ما سر سحب المرسوم من الكلدان وليس من غيرهم، من ذوي المراسيم، ليجيب، ان نسبة ما يمتلكونه لا تقارن بحجمهم تجاه الكلدان. مما يفسر لنا ان غض النظر هو ايضا طريقة من طرق ذر الرماد في العيون.
ولكن ماذا ستكون آلية التحكم بأملاك الوقف الكلداني؟ قال صديقي العارف: يضعون في الوقف الشخص الذي يناسبهم ، بالصيغة المتفق عليه، ومن الخلفية الكنسية والدينية المناسبة ليفي لهم بالغرض المنشود.
الجهة العميقة وراء الازمة، مع ان في الوااجهة بعض الانفار
وهكذا فإن هذا المخطط الذي تم تمريره على الرئيس الحالي، مع ما تم تقديمه من المسببات القانونية، بحسب التصريحات، يأخذ عمقه في تشكيلة الاستثمار الرسمي المؤطر حكوميا، طائفيا وبالمحاصصة. لذلك فإن وراء الاكمة ما وراءها، مع ان اللاعبين من حيث يدرون أو لا يدرون هم قلائل وفي الواجهة. وهكذا فإن الجهات المعنية، التي وصلت إلى ما وصلت اليه مع الكنيسة الكلدانية، جاء ذلك بفعل الزمن المتراكم، بما في ذلك اي حالة من الانسجام الدماغي ليحظى بالمقبولية والمنطقية. كل هذا في الواقع المسيحي والايماني والانساني بعيد عن الثوابت التي تحدث عنه سيادة مار يوسف توما رئيس أساقفة كركوك، عندما دعى مؤخرا الى مظاهرة مساندة للبطريرك، تلك الثوابت المتمثلة بتجارب يسوع المسيح الثلاثة من قبل المجرب الشرير: السلطة المال واللذة.
نحو ثورة على الذات
وبعد، هذه هي الدولة التي يرأسها، الرئيس الحالي، وزير الموارد المالية قبل عقد ونيف من الزمن. والشيء بالشيء يذكر، عندما طرح عليه يوما السؤال: عن التأثير في الحصول على النسبة الساحقة من الانتخابات، بمحاصصة طائفية، ليجيب: “انت منين جبت هذا الحجي”. وعندما طرح عليه السؤال، كيف تقبلون بخلفيتكم العلمانية، بأحزاب ذات قاعدة طائفية ليجيب: شاكو بيها: اما يوجد في السويد: الحزب الديمقراطي المسيحي.
فهل يعقل ان يكون الرئيس الحالي، رئيسا لحكومة بأحزاب طائفية، تستغل المواطن وابن الشارع، وتجعل ارصفة شوارع بغداد الجديدة والعديد من احياء بغداد، ارصفة تتجاور فيها أركام القمامة وتتزاحم على المزيد من الازبال.
فإن كان لا يقبل، هو وغيره، من وزير، مالية، وأمين بغداد، ووزير دفاع، ووزير داخلية، فالأمرباقل ما يمكن أن يكون كما أسلفنا، قد يقتضى قبل كل شيء، الثورة على الذات. وإذا حدثت تعود الكثير من الأمور إلى مجاريها. كل هذا في الواقع المسيحي والايماني والانساني يأتي ضمن الثوابت التي تحدث عنها المطران يوسف توما رئيس أساقفة كركوك، عندما دعى مؤخراً الى مظاهرة مساندة للبطريرك، تلك الثوابت المتمثلة بتجارب يسوع المسيح الثلاثة من قبل المجرب الشرير: السلطة المال واللذة. لكن هذا يحتاج، كما أضاف المطران يوسف إلى التسلح بفضيلة الرجاء، في المولى الذي هو الأقوى، الله وليس البشر.