نفّد البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو قراره بنقل مقرّ إقامته من بغداد إلى أربيل. ويشكّل هذا الرحيل الاختياري سابقة في عهد الكنيسة الكلدانيّة التي تعود جذورها في العراق العزيز إلى القرون المسيحيّة الأولى، ولم يحدث أن غاب البطريرك عن كرسيه في بغداد إلا في عصر المغول في القرن الخامس عشر، وبالأخص في عهد تيمورلنك الذي فصل الأبرشيات عن رئاستها الروحية.
ننظر إلى الأمر بحزن وتأثّر، فقبل عشرة أعوام إلا نيّف، هاجمت العراق، وبالأخص في الموصل وسائر سهول نينوى، جحافل التنظيم الإرهابي داعش، التي كانت تسمّى الدولة الإسلاميّة، إلى أنّ قرّر الأردن العزيز أن يطلق عليها صفة “عصابة” داعش الإرهابيّة، فلا دولة تبنى على الدين وتتخذ من العنف والتقتيل والتهجير سياسة لها، وتشرّد على إثر ذلك ألوف مؤلفة من مسيحيي الموصل وبلدات سهل نينوى، وجاء قسم كبير منهم إلى الأردن، وما زال بعضهم هنا شهوداً على قسوة الأيام في بلادهم من جهة، وعلى ترحيب الأردن بكل أطيافه بهم من جهة أخرى.
وبعد هذه العشرية المؤلمة، وبعد زوال العصابة نهائياً إلى غير رجعة، بدأت عملية لملمة البيت الداخلي في العراق الشقيق. ومن علامات الانفتاح الديني فيه كانت الزيارة التاريخيّة للبابا فرنسيس في آذار 2021، وهي الأولى على الإطلاق لحبر أعظم. وعلى مدار 4 أيام، نثر قداسته خطابات المودة والتلاقي، داعياً الشعب العراقي إلى التمسّك بجذوره الإيمانيّة، وإلى إبداء التلاحم أكثر فأكثر، لأنّ الدين جامع ولا يفرّق.
لكنّ الأيام الماضيّة حملت أخباراً مزعجة، تمثّلت بسحب المرسوم الرئاسي رقم 147 لسنة 2013، والخاص بمسؤولية البطريرك ساكو القانونية على الأوقاف الكلدانية، وذلك بعدما صادق البابا فرنسيس على قرار أساقفة الكنيسة الكلدانيّة بانتخابه بطريركاً عليها عام 2013. لكنّ المرسوم قد تمّ سحبه وإلغاؤه بحجة عدم قانونيّته وتوافقه مع الدستور كما قالت البيانات الرسميّة.
الفاتيكان، كرأس للكنيسة الكاثوليكيّة التي تنتمي إليها البطريركيّة الكلدانيّة، عَبّرَ، عِبر سفارته في بغداد، عن أسفه لسوء الفهم والتعامل غير اللائق فيما يتعلق بدور البطريرك كوصي على ممتلكات الكنيسة الكلدانيّة، بالإضافة إلى بعض التقارير المنحازة والمضللة حول هذه القضية، والتي غالباً ما تتجاهلها كشخصية دينية تحظى بتقدير كبير. وشدّد على أن إدارة ممتلكات الكنيسة، على النحو المنصوص عليه في الدستور العراقي، يجب أن تستمرّ بحرية من قبل رؤساء الكنائس وعلى المستوى العملي، أي أمام المحاكم العراقية والمكاتب الحكوميّة.
ومن القدس، وعلى لسان البطريرك المعيّن كاردينالاً بييرباتيستا بيتسابالا، صدر بيان تضامني أكد فيه أنّ الأحداث المؤسفة التي تعيشها الكنيسة الكلدانيّة في العراق “غير مبرّرة، وغير مقبولة”، مُعرِباً باسمه الشخصي، وباسم جميع كنائس القدس، عن التضامن والصلاة. وقال: “أنتم يا غبطة البطريرك لستم وحدكم، إنّ كنيستكم ليست وحدها، وإنّنا نتمنى لكم عودة سريعة وميمونة إلى بغداد في سلام”. وهذا ما تكرّر على لسان البطريرك الكاردينال بشارة الراعي، الذي اصدر من مقرّه الصيفي في الديمان بياناً شديد اللهجة من أجل أخيه البطريرك العراقي.
وقد توالت ردود الفعل العالميّة، من سلطات مدنيّة، أهمها الخارجيّة الأميركيّة، ومن رئاسات دينيّة مسيحية وإسلاميّة، ندّدت بهذا العمل الذي من شأنه مع كلّ أسف دفع ما تبقى من المسيحيين الأصلاء في العراق الشقيق إلى مغادرة العراق. فقبل 2003، كان عدد مسيحيي العراق أكثر من مليون ونصف مواطن، واليوم، وبعد عشرين عاماً، نجدهم لا يصلون إلى مئة وخمسين ألفاً. ألا يستحق هذا الحضور الزاهي والراقي الاهتمام العربي والدولي اللائقين؟
دعاؤنا إلى العلي أن يلهم حكماء هذا العصر للتوسّط لدى الرئاسة العراقيّة، ويثنيها عن قرارها، لكي لا توسم بغداد بأنها طاردة لأهلها. ولكي لا يكون ما حدث مع غبطة البطريرك ضغطاً على مسيحيي العراق، لكي يرحلوا. وقد قال السيّد المسيح: “إذا كان ذلك يفعل بالعود الرطب، فما أحرى أن يعمل مع العود اليابس”؟ حفظ الله العراق الشقيق، وحفظ وحدته الوطنية.