نؤمن بالروح القدس
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
بمناسبة عيد حلول الروح القدس (الأحد 28 أيار)، أود أن أشرح للمؤمنين المُنهَكين بالهموم اليومية موضوع الروح القدس بالغ الصعوبة. لنتأمل كلمات يسوع بشكل شخصي وجماعي (كنسي) كما جاءت في الإنجيل، ولنطلب أنوار الروح القدس لكي نفهمها بعمق. ولنجدّد حبّنا وثقتنا بأن مهما كانت الألآم، فلابد أن نَعبرَ الى القيامة على مثال يسوع. “تُرسِلُ رُوحَكَ فيُخلَقون وتُجَدِّدُ وَجهَ الأَرض” (مزمور 104/ 30).
الروح القدس هو تَجلّي الله الثالوث كأب وابن وروح قدس، أي مثلث الحضور الإلهي بين المؤمنين. هذا اللاهوت خاص بالمسيحيّة. إله واحد بثلاثة أقانيم وجوهر واحد، وليس ثلاثة آلهة. الروح القدس يعمل بإنسجام مع الآب والإبن منذ بدء تدبير الخلاص (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية رقم 686). الروح القدس هو عطية الله: “لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ اسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّاً” (يوحنا 4/ 10). لذلك علينا أن نطلب من الرب أن يمنحنا الروح القدس ليُقيم فينا ويساعدنا أن نرى الأشياء بعينيّ الله، وليس بعينينا البشريتين.
التسميات الروح، الريح، الهواء يستخدم يسوع كلمة الريح – الهواء في حواره مع نيقوديمس (يوحنا 2/ 1-21). الفارقليط هو الصفة الأهم ويعني المُدافع والمُعَزّي (تعليم الكنيسة رقم 692). يقدم يوحنا الفارقليط حضوراً إلهياً بعد ارتفاع يسوع الى السماء. ان اللفظة اليونانية الأصلية وهي الفارقليط Parakaleo وبالسريانية – الكلدانية ܦܪܩܠܝܛܐ، اي ذاك الذي يأتي للنجدة والدفاع عن التلاميذ. وفي مصطلحاتنا الحالية نقول “المحامي”. الروح القدس هو روح الله وليس شخصية بشرية مثلنا. هذه هي عقيدة المسيحيين الثابتة. لا علاقة لفارقليط الانجيل برسول الإسلام، ولا يُنبيء بمجيئه. وثمة فرق بين PERIQLYTOS (أحمد أو محمود) و PARACLYTOS الروح المدافع، فضلاً عن الفارق الزمني الذي يتجاوز ستمائة سنة. |
في الإنجيل الروح القدس شاهدٌ ليسوع يُذكّر بكلامه ويُدخل المؤمنين في ديناميكية الوحي ويكشف هويته الإلهية من خلال تفسير كلامه وتعليمه على ضوء القيامة، انه “روح الحق“ (يوحنا 14/ 6)، يهدي المؤمنين نحو الحق ويُطمئِن التلاميذ انهم ليسوا وحدهم في مواجهة التحديات إنه يُثبتهم على الإيمان والرجاء ويحقق وحدتهم يُغيّر التلاميذ من الداخل، ويعمل فيهم ومن خلالهم ويدعمهم في رسالتهم ويخزي مناهضيهم |
الرموز ثمة رموز دقيقة ومحدَّدة تحمل معاني لاهوتية تكشف عن سرّ الروح القدس الماء الذي يهب الحياة يرمز الى عمل الروح القدس ففي المعمودية تتم الولادة في الماء بفعل الروح القدس. الماء هو رمز الولادة الجديدة والحياة الجديدة (نعمة الإيمان). يسوع يتكلم عن الماء: “وفي آخِرِ يَومٍ مِنَ العيد، وهُو أَعظَمُ أَيَّامِه، وقَفَ يسوع ورفَعَ صَوتَه قائلاً: إِن عَطِشَ أَحَدٌ فليُقبِلْ إِلَيَّ ومَن آمنَ بي فَلْيَشَربْ كما ورَدَ في الكِتاب: ستَجري مِن جَوفِه أَنهارٌ مِنَ الماءِ الحَيّ. وأَرادَ بِقَولِه الرُّوحَ الَّذي سيَنالُه المؤمِنونَ بِه” (يوحنا 7/ 37-39). زيت – المَسحَة المكرَّس تشيرُ الى فعل الروح القدس للسرّ الذي يتحول فيه المسيحي الى إبن لله، ولتكريس الكاهن حتى نفهم هذا التكريس – المَسح، ينبغي أن نعود الى المسيح الذي مسَحَه الروح القدس (تعليم الكنيسة 695). يُطبّق يسوع في خطابه عن برنامجه المسيحاني في مجمع الناصرة على نفسه عبارة النبي إشعيا “رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء…” (لوقا 4/ 18 و إشعيا 61/ 1). النار ترمز الى ديناميكية الروح القدس: “وظَهَرَت لَهم أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ قدِ انقَسَمت فوقَفَ على كُلٍّ مِنهُم لِسان، فامتَلأُوا جَميعاً مِنَ الرُّوحِ القُدس” (أعمال 2/ 3-4). في تقليد الكنيسة النار من أكثر الرموز المُعَبَّر عنها لعمل الروح فهو المُنير، والدافئ ، والمُطهّر والقوي. الريح – الهواء تعبّر الريح عن إستمرار الحياة الهواء أساسي يشير الى القوة: “فالرِّيحُ تَهُبُّ حَيثُ تَشاء فتَسمَعُ صَوتَها ولكنَّكَ لا تَدري مِن أَينَ تَأتي وإِلى أَينَ تَذهَب (يوحنا 3/ 8). و”ولَمَّا أَتى اليَومُ الخَمسون، كانوا مُجتَمِعينَ كُلُّهم في مَكانٍ واحِد، فانطَلَقَ مِنَ السَّماءِ بَغتَةً دَوِيٌّ كَريحٍ عاصِفَة، فمَلأَ جَوانِبَ البَيتِ الَّذي كانوا فيه” الخَتَم يَرمز الى عمل الروح الذي لا يُمحى في أسرار المعمودية والميرون والكهنوت الخَتَم أي البصمة التي لا تُمحى والتي لا يمكن تكرارها يقول إنجيل يوحنا: “إعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة ذاكَ الَّذي يُعطيكموهُ ابنُ الإِنسان فهوَ الَّذي ثبَّتَه الله الآبُ نَفسُه، بِخَتمِه” (يوحنا 6/ 27). وضع اليد (ܣܝܡܝܕܐ) بواسطة وضع الأيدي على رأس الأشخاص المفوَّضين للرسالة يمنحونهم موهبة الروح القدس: “وسَمِعَ الرُّسُلُ في أورَشَليم أَنَّ السَّامِرَةَ قَبِلَت كلِمَةَ الله، فأَرسَلوا إِلَيهم بُطرُسَ ويوحنَّا فوَضَعا أَيدِيَهما علَيهم، فنالوا الرُّوحَ القُدُس” (أعمال 8/ 14-17). ثم في اختيار برنابا وبولس “فصاموا وصلَّوا، ثُمَّ وَضعوا علَيهِما أَيدِيَهم وصَرَفوهما” (أعمال 13/ 3). وفي القداس الى يومنا هذا نمد اليدين فوق القرابين ليَحلّ الروح القدس عليها ويحوّلها الى جسد المسيح ودمه الحمامة رمز الحمامة تقليد قديم أيضاً يرمز الى السلام كما في معمودية يسوع “فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه” (متى 3/ 16). |
مواهب الروح القدس حدّدت الكنيسة الكاثوليكية سبع مواهب، وهو عددٌ رمزيٌّ يشير إلى الملء أي كمال الإنسانية “أَمَّا أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم” (يوحنا 10/ 10). هذه المواهب ليست ثمرة معرفة بشرية، إنما علاقة مع الله وخبرة روحية. هذا الكمال نلتمسه في الصلاة والإنصات الى نداءاته، والاستعداد الداخلي لنجسّد الوعود التي أعطانا إياها يسوع. يمنح الروح قدرة – نعمة خاصة لكل مؤمن. هذه النعمة التي تمارس في الكنيسة لصالح الإخوة تسمى الكاريزما. يقول يسوع: “وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد، رُوحَ الحَقِّ الَّذي لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يَتَلَقَّاه لأَنَّه لا يَراه ولا يَعرِفُه” (يوحنا 14/ 16-17) مواهب الروح القدس ليست لخدمة الكنيسة وحدها، بل لخير جميع البشر: “ولْيَخْدُمْ بَعضُكم بَعضاً، كُلُّ واحِدٍ بما نالَ مِنَ المَوهِبَة” (1بطرس 4/ 10) الحكمة لتدبير الامور بمنطق الله وليس بمنطق العالم، وإتخاذ القرار السليم والمناسب. سليمان الحكيم لم يطلب من الله سوى الحكمة (1ملوك 3/ 5-9) الفهم لاستنارة عقولنا لتقبُّل سرّ الله والحقائق التي يكشفها لنا ويحفزّنا على تحقيق أهداف وجودنا المشوَرَة للتمييز بين الصح والخطأ والاستمرار في النعمة العلم – المعرفة للتعرف على صورة الله الحقيقية وصورة يسوع سعياً للتمثُّل به عِبرَ خبرة وجودية ومشاركة حقيقية ليستمر حضوره. “ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم” (يوحنا 14/ 26) القوة لمواجهة متاعب الحياة اليومية بلا خوف، والمضيّ قدُماً بثبات وثقة ورجاء، “لاَ تَطرَحنِي مِنْ قُدَّامِ وَجهِكَ، وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعهُ مِنِّي” (مزمور 51/ 11) مخافة الله للاحتفاظ بالاحترام الواجب لله والخضوع البنَوي له |
هنا أشدد على أهمية وجود أوقات صمت في النهار للصلاة والإصغاء لنيل مواهب الروح القدس فنُتيح له المجال
ليصلّي فينا ويغيّرنا من الداخل
ويُنقذنا من المخاوف والمتاعب
ويربطنا بالثالوث
أَمَّا ثمار الرُّوح القدس فهي الأعمال التي تنتجها هذه المواهب – الفضائل وتشمل: المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ والعَفاف وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ |
“لتُساعِدنا نعمةُ اللّهِ الآبِ.
ورحمةُ إِبنهِ الوَحيد، ورأفَةُ الروح،
سِرّاً ثالوثاً خَتَم حياتَنَا، بهِ رَجَونا”
(تسبحة صلاة الصباح للأيام الاسبوع)
_______________________________________________
المراجع
معجم اللاهوت الكتابي، دار المشرق بيروت، الطبعة الخامسة 2004
التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، الطبعة العربية، المكتبة البولسية، جونيه – لبنان 1999
الانجيل بحسب القديس يوحنا، تأليف الآن نرشدور، ترجمة الأب بيوس عفاص، سلسلة ابحاث كتابية/15 ، الموصل 2009
The New Dictionary of Theology, Dublin 1990
Dictionnaire Encyclopédique, de la Bible, Brepolis 1987
Catechismo Biblico, Giuseppe Rizzi, Ancora ‘Milano 2022