المواطنة في العراق وتسييس المسيحية فيه، بين الضبابية والحد الفاصل بينهما
الخوراسقف نوئيل فرمان
كانت الايام الماضية، فرصة تفكير وتأمل، بشأن الأحداث الراهنة وما احتدم من مواقف تجاه الكنيسة الكلدانية، وتحديدا في شخص مار لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم، والكاردينال في مصاف كرادلة الكنيسة وله الكاثوليكية، ,الحق في التصويت لبابا كاثوليك العالم.
ومع ان جهات عديدة ومتابينة كتبت عن الموضوع من جوانب متنوعة، إذ وددت تسليط الضوء على الخط الفاصل في العالم المعاصر، بين الشأن الديني والشأن المدني السياسي.
ولعل ضبابية الرؤية في هذا المضمار بل الجهل في مجال المقارنة بين الشأنين، هو ما أدى الى هذا الخلط المؤسف والى هذه المواقف غير المنطقية أساسا تجاه مسؤولية الرئاسة الروحية للكنيسة وشؤونها الإدارية الخاصة، ضمن ضوابط قانونية مقرة. هذا من جهة، ومن جهة آخرى فإن اي رئاسة كنسية عليا، لها دورها في ابداء الرأي (مثل المرجعيات المسلمة) ، رغم عدم دخولها معتركا سياسيا محددأ، واتخاذ المواقف، في الشأن العام المتعلق بحقوق رعاياها وحرية ممارستهم للشعائر الدينية لأبنائها وما يتم بصلة إلى ارثهم القيمي والاخلاقي. كل هذا إزاء ما يتقلب ببلادنا، من مفارقات متضاربة ومأساوية، كما هو الحال ببلدان المنطقة المكبلة باالطائفية والمحاصصة والفساد، لتغدو اوضاعها لا تساهم في اللحاق بركب الاستقلالية الحضارية والمتسمة بالحيادية، ما بين المشاريع السياسية، وما بين حرية الفرد والجماعات في اتباع شعائرها ضمن الحدود الانسانية والوجدانية طالما كانت لا تؤثر على الشارع العام او حرية الاخرين وسير أعمالهم.
وليس الغرض هنا تطويب الوضع في بلدان الانتشار، ولكن ثمة حدا فاصلا، تم استباحته في الوطن الام. وثمة ثوابت عامة منها:
أن يحمل شخص ما اسما مسيحيا او يعرّف في هويته انه مسيحي، فإن هذا لا يقتضي بأن ينسحب انتماؤه السياسي أو الحزبي او تصرفه الشخصي في كونه مسيحيا. وهناك للمسيحي او لغيره من ممتهني السياسة، هامش من الاستقلالية وحرية الاختيار، وبصرف النظر عن مدى توفقه في اختياره الحر او عدم توفقه.
بل ثمة ما هو أكثر مؤسفا، انه في عهد المحاصصة في البلاد، يرجع الاختيار السياسي لهذا الشخص أو ذاك، على انه محسوب على الجانب المسيحي حصرا، ومصنف في الكوتا كذلك بصرف النظر عن ثقافته واقتداره وانتمائه الديني الصميم.
وماذا إذا كان هذا الشخص او ذاك يمارس نسبية في المقارنة بين الاديان والشعائر، لحد الاندماج الوجداني مع شعائر الاخر، في حرية اختيار هو المسؤول عنه، ولكن دونما تجيير ذلك على خلفيته المسيحية، وكأن هذه ممارسة يمثل فيها المسيحية. حاشا.
الثوابت المنطقية الاخرى، هي أن الشخص الذي يحمل اسما مسيحيا مثل حنا او ميخا او قرياقوس وغيرها من اسماء مشرّفة، ويحمل في خانة الديانة بهويته اسم المسيحي، إذا اراد ان يتصرف كمسيحي ممارس ومؤمن بعقيدته، إلى جانب اختياره السياسي الحر، فالحالة تختلف عندئذ وكما يأتي:
له أن يحفظ مسافة مناسبة بين شعائره وشعائر الاخر، مسافة تتسم بالاحترام والاستقلالية بعيدا عن اي انصهار او تبعية.
وقد يحدث لهذا أو ذاك من “المسيحيين” رسميا وضمن نشاطه السياسي، ان ينجرف لاهداف وبسبل خاطئة، إلى أن يتبنى مواقف غير مشرفة من رئاسته الروحية الكنسية، مع تأكيده بانه مسيحي تابع لرئاسة كنيسة محددة، وبقدر ما نستبشر خيرا كون هذا وتلك من السياسيين، ما زالوا يدعون حمل الاسم المسيحي، فإننا نود القول بروح الرجاء، انه ليس هذا نهاية المطاف، بل ان المسيحية التي يدّعون الانتماء إليها هي مسيحية تدعو الى مراجعة الذات، وتصحيح المواقف ومعالجة الضرر والاهتداء الى المواقف التي تقرها قيم المسيحية وفضائلها.
فالتجني على مواطن من اي دين، أو على مسيحي، وكذلك على رجل الدين، فكيف بالأمر عندما يتجنّى مدّعي المسيحية على رئاسته الدينية الخاصة، كل هذا يبقى تجنيا ضد القريب، يستدعي التوبة واصلاح الضرر لمن يحمل اسم المسيحية، تجاه اي من العناوين المذكورة. في زمن لم تعد الكنيسة الكاثوليكية على سبيل المثال لا الحصر، وبعد المجمع الفاتيكاني الثاني، قلما نجدها، ويا للغرابة، تتخذ عمليا اجراء قانونيا محددا تجاه اتباعها من مؤمنين واكليروس.
إننا نرى ضمن قيمنا المسيحية والكهنوتية، اننا امام حدين فاصلين:
الحد الاول
ان مسيحيينا المواطنين الاصلاء، باتوا يعون اكثر فأكثر من هو الذي حقيقة يمثل عراقيتهم كمواطنين اصلاء، ويلتفون ويختارون من يتوسمون فيه هذه الصفات، مسيحيا كان او مواطنا عراقيا فحسب. بما في ذلك مطالبة السياسي العراقي ومن باب أولى المسيحي السياسي، الا ينجرف وراء اللعبة الطائفية الفاسدة في البلاد. ولئن وصل الحال بسياسيين عراقيين ان يمثلوا بحكم الواقع المتناقض والمرير، عناوين طائفية، فإننا نرجو أن يحتكموا إلى الضمير، وأن يكونوا ممثلين للشأن العراقي أساسا. ولما كانت رئاسة كنيستنا تدعو المجتمع العراقي الى المطالبة بحكومة مدنية، فمن باب اولى تكون الدعوة لمسيحيينا السياسيين ان يحترموا انفسهم بعدم التدخل في الشأن الروحي والكنسي وما يخص ادارة الكنيسة لشؤونها.
عليهم ان يمارسوا دورهم كممثلين للشعب العراقي بكل شرائحه وألوانه.
الحد الثاني
وكما سبق ذكره ثمة اذن ضرورة لوضوح الرؤية على المستوى الوطني والمسيحي بفصل السياسة عن الشؤون الكنيسة، ضمن المطالبة عموما بنظام مدني. وعليه فإن السياسي المسيحي مدعو لأن يقتنع بأن مقبوليته الحقيقية هي باتجاه التوجه المدني والمواطنة الاصيلة، واعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
أما عند السقوط في خطأ التداخل بين ما هو سياسي وما هو كنسي، فيتجاوز السياسي المدعي بالمسيحية، كمسيحي ممارس أصيل، على حد ادّعائه الجانب الديني، أو إنكاره لحق الرئاسة الكنسية لمسؤوليتها امام الشأن العام، هنا ينبغي عدم الخلط بين العمل السياسي وما يدعيه من انتماء روحي مسيحي.