شتان ما بين فكر وخطاب البطريركين (مار ساكو ومار آوا) في كلمة تهنئتهما بمناسبة اكيتو
د. عبدالله مرقس رابي
نقلا عن عنكاوا دوت كوم
بين حين وآخر تشتد الصراعات الفكرية حول التسمية الاثنية في وسائل التواصل الاجتماعي لمن يعتقدون انهم بقايا سكان حضارات بلاد النهرين القديمة من الكلدان والاشوريين والسريان المعاصرين، وغالباً ما تشتد وتطفو على السطح بين المهتمين عندما تقترب الانتخابات البرلمانية في العراق، او عندما يدلي أحد المسؤولين الروحانيين او السياسيين بتصريح قد يحتوي شيئاً من هذا القبيل. الصراع الفكري الحالي بدا مع احياء ذكرى اكيتو، وكلمة غبطة البطريرك (مار آوا الثالث روئيل) بطريرك كنيسة المشرق الاشورية بمناسبة الإعلان عن كلمته بهذه المناسبة الموجهة لتهنئة الامة الاشورية في 26/3/2023، وذلك لما احتوتها من عبارات لم تكن متوقعة من غبطته في مثل هذه الأيام عن موقفه من التسمية، كما سيتبين ادناه، وتلتها كلمة غبطة البطريرك الكاردينال مار لويس ساكو بطريرك الكنيسة الكلدانية في 28/3/2023 الموجهة لتهنئة الشعب الكلداني التي اختلفت في سياقها الفكري والخطابي عن الاولى. ولما أصبحت مملة ودون منفعة ونتيجة تُذكر كما قال بعض من المهتمين، الا ان المسالة جديرة بالاهتمام لمقارنة ما جاء في الكلمتين لصاحبي الغبطة والاحترام لاعتبارهما النموذج الذي يقتدي بهما الشعبين، وتبيان وجهة النظر عن الموضوع. بعد قراءة الكلمتين بتمعن، سيدرك القارئ تماماً هناك فرق كبير بينهما من حيث اللغة المستخدمة لما احتوت من مفردات وعبارات عند كل منهما، مما يتجلى الاختلاف في النمط الفكري الذي يحدد الغاية من الكلمة الموجهة.
فالبطريرك ساكو يوجه كلمته ببساطة ووضوح الى الشعب الكلداني دون ان يدخل بتفاصيل تاريخية تمجيديه معمقة ومُبالغ بها باتت معروفة للجميع، بل اكتفى بعبارة (أُهنئ قلبياً بنات وأبناء الشعب الكلداني العزيز باكيتو راس السنة البابلية الكلدانية الذي يوافق الأول من نيسان في كل عام) ولو كان من الاجدر ذكر العام الذي هو 7323. وقدم التهنئة للشعب الاشوري الذي يتزامن احتفالهم براس السنة الاشورية نفس اليوم، تهنئة تعبر عن روح المحبة واحترام الاخر باستقلالية ودون اثارة اية اختلافات في الموقف من التسمية. احترم الشعب الاشوري كشعب حي موجود كما هو الشعب الكلداني في الواقع، لا كما يرى الاخر. ولو كان من الممكن استبعاده لهذه التهنئة طالما لم يقدم البطريرك آوا الذي سبقه بكلمته التهنئة بنفس الروح والسياق الفكري، الا ان غبطته يدرك تماماً انه قائد واب روحي ينطلق من المحبة والاحترام للاخر كما اوصاه معلمه الأول يسوع المسيح.
حالا، عرج في كلمته ليربط تزامن المناسبة مع الأسبوع المقدس وعيد القيامة المجيدة، والتوجيه النفسي والروحي من حيث تجديد الانتماء والعزم في التضامن وترسيخ الاخلاق الحميدة والاخوة والعيش المشترك مع الاخرين في الوطن، مع تأكيده على ان الكنيسة الكلدانية اليوم تفتخر بجذورها القومية والتاريخية واللغوية والتراثية وعلى استقلاليتها لتقود مسؤوليتها دون التأثر بأية ضغوطات او اغراءات.
يدعو الشعب الكلداني والكنيسة الكلدانية الى الوحدة من اجل التشبث بأرض الإباء، كما يدعو التكاتف والتعاون بين الكلدان في بلدان الاغتراب لمناصرة اخوتهم الكلدان في الوطن الام. ولكي تكتمل مسؤوليته الروحية المسيحية، ينتهز هذه المناسبة ليدعو مسيحي العراق لتوحيد الصفوف وتضامنهم ورفع صوتهم عاليا وتوحيد القوى الكنسية والاجتماعية والفكرية والسياسية في هذه المرحلة المليئة بالتحديات. توجيه روحي أخوي دون التدخل بشؤونهم الكنسية او السياسية او القومية، بل ان تحافظ كل جماعة اثنية او دينية على خصوصيتها وهويتها. نلاحظ بوضوح عبارات توجيهية تخص أحوال الكلدان اليوم وكنيستهم ومسيحي العراق يطلقها بثقة عالية بالنفس.
بينما من متابعة لكلمة البطريرك (مار آوا) استنتجت، ان السياق الفكري المتأثر بالأمجاد التاريخية والقومية كما يتأثر السياسي هو الغالب في كلمته لما احتوت من عبارات وفقرات تخص الشأن القومي والسياسي والتمجيد والعظمة، لو أخفينا لقب غبطته ومسؤوليته المشار اليها في الكلمة، يوحي للقارئ تماماً ان كاتبها سياسي قومي مخضرم. في حين المفروض ان يربط المناسبة بالروحانيات والاكتفاء بتشخيص واقع الشعب الاشوري اليوم طالما انه رجل دين. وأكثر الأفكار بعداً عن الروحانيات هي اثارته لعدة مرات في الكلمة لعبارات تعكس التدخل بشؤون الكنائس والانتماءات الاثنية القومية للجماعات الأخرى، تلك الأفكار التي تعد افتراضات وهمية مؤدلجة (ملينا منها فعلا) ودُحضت تماماً من قبل المفكرين الكلدان والسريان ببراهين علمية ومنهجية ويكررها دون جدوى ومنفعة كما كان المرحوم سلفه البطريرك ماردنخا.
ومن هذه العبارات التي تعكس السياق الفكري لغبطته: قوله: (الى أبناء وبنات كنيسة المشرق الاشورية، وجميع أبناء امتنا الاشورية)، واضح جدا من إضافة وجميع أبناء الامة الاشورية المقصود الكلدان والسريان.
(تاريخ يمتد الى سبعة الاف سنة في الوجود على الأرض) معلومة مستوحاة من الاساطير والخيال، لا يمكن تحديد تاريخ بدء وجود اية جماعة بشرية على الأرض بالضبط ولا أصولها العرقية ولا الجغرافية ولا تسميتها، وانما كل ما جاء به المؤرخون هي تخمينات وفرضيات لم تحسم لحد اليوم بدليل ما نتفاجأ باكتشافات اثارية جديدة بين حين وآخر تفند القديمة من خلال تطور وسائل التشخيص وتوفير فرص الاكتشافات والتنقيب حول العالم. علماً ان اول ظهور لحضارة مسماة بالآشورية لا تعدو سنة 1816 قبل الميلاد وثم سقطت على يد الكلدان والميديين عام 612 قبل الميلاد. (مصادر رقم 1، 2، 3 ادناه).
نسب كل المخترعات العلمية التي انجزها الكلدان بحسب تأكيد كل المصادر الى الحضارة الاشورية، وهذا خطأ كبير، ولكن لديه ليس ذلك لأنه يعد الكلدان وكل شعوب بلاد النهرين اشوريون!!
عبارة لا تُقر علمياً الا في الخيال في قوله: انهم نسل أولئك الاشوريين الذين بنوا الحضارة الأولى في الخليقة!! بينما اسم الحضارة الاشورية لم يُعرف تاريخياً الا العام المذكور أعلاه، اما إذا خلق الله في البدء اشوريين فقط، او تكوّن اول البشر واستقر بحسب النظرية التطورية هم اشوريون، فهذه مسالة أخرى، ولكن هل يمكن البرهان والتصديق؟ فذلك من نسج الخيال الإنساني. علما ان الدراسات الانثروبولوجية والاجتماعية الحديثة تؤكد قطعاً ان وجود عرق بشري نقي في يومنا هذا ضرب من الخيال والسراب، فكيف ارجع غبطته الشعب الاشوري المعاصر لهذا التاريخ العميق منذ خلق البشرية. (المصدر4).
يقول: (ظل تفكيرنا محصوراً في القرن السابع قبل الميلاد عندما سقطت نينوى على يد اعدائها سنة 612 ق م. أولا أوقع نفسه في تناقض كيف الكلدان الذين تضامنوا مع الميديين أسقطوا نينوي وفي فلسفته يعتبرهم اشوريين؟! اما عن عملية انحسار التفكير القومي في التاريخ المذكور، من يقول بان الانتماء والولاء كان عند الشعوب القديمة قومياً او وطنياً؟ كل المصادر تُشير ان الشعور القومي لم يكن قائماً، بل بحسب الدراسات الانثروبولوجية التي درست الشعوب البدائية المعاصرة التي تأخذ من الطوطم عاملا للشعور بوحدة الانتماء (مصدر 5)، تماما تلك الفكرة الانتمائية كانت سائدة عند الشعوب القديمة، أي كانت فكرة الانتماء الى الجماعة البشرية او القبيلة بعد استقرار البشر هي تجاه الاله والملك الذي يستمد قوته من الاله نفسه، فكل ما جرى في المجتمعات القديمة من الحروب والاحتفالات وكل العمليات الاجتماعية كانت من اجل الاله والملك وليس الشعب، فالشعب لم يندفع للقتال عندهم من اجل الوطن، بل لأجل الملك للغزو واقتناء الموارد والثروات من المجتمعات الخاسرة للحرب. وكانت تصد الهجمات والاعتداءات من الاقوام الأخرى لعامل الخوف من بطش وجبروت الملك وليس لشعورهم للانتماء القومي او الوطني، وهناك امثلة متعددة من حوليات الملوك الاشوريين أنفسهم كيف يصرحوا ان الاله امرهم بالغزو. (مصدر 6). كما لا نعثر على لقى اثرية ابدا تحتوي على نص مكتوب وفيه القيام بالعمليات العسكرية لأجل الوطن او الشعب ولا نعثر على شيء اسمه القومية.
فمفهوم القومية والأمة حديث جداً وان كان بعض المفكرين يعزون ظهوره الى القرن الثالث عشر في اوربا، انما معظمهم يؤكدون ان مفهوم الانتماء القومي ظهر في القرن التاسع عشر. وبعدها دخل الى منطقة الشرق الأوسط عن طريق الدولة العثمانية واستخدمه لأول مرة المفكرون العرب للنهوض القومي ضد العثمانيين، وأصبح معتاداً في المنطقة سياسياً اما علميا يعبر عنه بمفهوم الاثنية. (مصدر 7). وعليه ان فكرة استخدام مفهوم الشعور للامة او القومية للآشوريين او غيرهم منذ القدم ليست علمية، وان المسيحية ما أحيت شعب بلاد النهرين عندما انتشرت بينهم بالمفاهيم القومية، بل المسيحية وكنيسة المشرق كانت عابرة القومية وتحتوي العديد من الاقوام، وجعلت من المؤمنين ان ينبذوا تسمياتهم القديمة لارتباطها بالوثنية، وركزت على تعاليم سيدنا المسيح، وجاءت وعادت تلك التسميات من الكلدانية والاشورية والسريانية المعاصرة بعد الانقسامات الكنسية المذهبية، بدليل ان تسميتها كانت بأسماء مؤسسيها او تسميات جغرافية. وترسخت حديثاً هذه التسميات بفعل العامل السياسي.
(بالرغم ان القسم الأكبر منا يقبل بهذا الانقسام …الخ) وهنا يقصد غبطته الكلدان، وبهذا الصدد أقول: ومن قال ان اتباع كنيسة المشرق كانوا اشوريين، وتغيرت تسمية من دخلوا الى الكثلكة بالكلدان؟ ولماذا لم يكن أولئك الاتباع هم الكلدان؟ فالعديد من الرحالة والمصادر يسمون (نساطرة الكلدان) او عند حديثهم عن قرية معينة في ذلك العهد يصفون سكانها (نساطرة كلدان) (مصدر . فهل هناك دليل قاطع انهم كانوا من الاشوريين؟ كل ما وجدت في المصادر الأجنبية التي اعتمدتها في مؤلفاتي لم اجد الا انهم أناس اختلطت دمائهم منذ القدم لتكالب أكثر من عشرين حضارة كبرى في بلاد النهرين واحدة تلوة الأخرى، ولعوامل متعددة انتشرت الشعوب على إثر الحروب والاسر والهجرة القسرية او الطوعية للنجاة بحياتهم وبحثاً عن الغذاء في كل الاتجاهات.(لمزيد من المعلومات عن عدد الأسرى الذين جاء بهم ملوك الاشوريين في حروبهم من الكلدان واقوام أخرى الى الأراضي المحيطة بالمدن الاشورية القديمة، يرجى مراجعة مصدر(9) وتفاصيل عن الحضارات والحروب وتغير الحضارات واندماجها في مصدر 10).
ومن عباراته الالغائية المثيرة قول غبطته: (انه من الضروري ان يجتمع جميع طوائف امتنا بمختلف تسمياتهم بروح اخوية وبمحبة حقيقية غير منقسمة خصوصاً في ارض اجدادنا لأنه يجب ان نتحد كأبناء وبنات امة نينوية واحدة). ناقشت الفقرات أعلاه التي اكدت على دمج الاثنيات الثلاث، فلا اكرر ذلك هنا، لكن من المُثير والعجيب اعتبارهم نينويين كلهم ليتحدوا تحت هذه التسمية! يبدو غبطته اعتمد على الفرضيات الوهمية التي يطلقها السياسيون من الاشوريين المعاصرين المتعصبين ان الذين يسكنون الان على ارض اشور هم اشوريون او ان مسيحيي ولاية حكاري التركية كانوا من نينوى. بالنسبة للفرضية الأولى وهمية لا أساس علمي لها وذلك اعتماداً على الحركة الديمغرافية للشعوب واستقرارهم على انقاض قرى اندثرت وهم غير القدامى، كما ان بلاد اشور احتوت شعوب متعددة قبل واثناء وجود الإمبراطورية الاشورية وبعد سقوطها، وفقاً لمدخل الانثروبولوجي لا يشتركون بصفات جسمية واحدة كل التجمعات البشرية الحالية التي تعيش في سهل نينوى، وبل في القرية الواحدة، فاني اعتبر مثلا قسم كبير من أهالي القوش وبيقوفا وبطنايا انثروبولوجيا لا كلدان ولا سريان ولا اشوريين وهكذا العديد من البلدات المسيحية الحالية الاشورية والسريانية، وغيرها من الأديان الأخرى. واما عن مسيحي حكاري قد اثبتت الدراسات الاثنوكرافية للرحالة في رحلاتهم المكثفة للمنطقة عدم الاتفاق على الأصول الجغرافية والاثنية لتلك العشائر النسطورية التي عاشت فيها، وبل اكدت على الاختلاف الانثروبولوجي بين أبناء العشائر جسمياً، وحتى فكرياً وتقاليد المعيشة، والازياء ولم يعرفوا شيئاً عن الاشورية، هكذا يؤكدها (كورش يعقوب في مؤلفه تاريخ الاشوريين من اورمي الذي عاصر تلك الفترة وكيف ان بعض الأشخاص روجوا الفكرة بين سكان المنطقة واستغربوا لها في بادئ الامر. (مصدر رقم 11، ويمكن مراجعة مصدر ميشيل شفاليه عن التفاصيل في دراسة سكان حكاري معتمدا على زيارته ودراسات العشرات من الرحالة وحلل آرائهم) فضلا ان العلامة الشهير (هنري لايارد مكتشف بقايا نينوى يؤكد عند زيارته مع فريقه الى قوجانس قدم البطريرك النسطوري مار شمعون نفسه عندما التقوا معه بلقب (بطريرك الكلدان المشرقيين). (مصدر 12). لو قالها غبطته اننا أبناء وبنات بلاد النهرين لكانت أجمل وأكثر موضوعية، لأننا فعلا ثلاث قوميات معاصرة تمتد جذورنا الى بلاد النهرين لان ببساطة لا يشترط في دولة واحدة او امبراطورية واحدة ان تعيش قومية واحدة وهذا ما تؤكده المصادر عن بلاد النهرين.
وقوله: (لسنا ثلاث أمم مختلفة بل امة واحدة ولنا جذور واحدة وميراث مشترك)، بصدد امة واحدة لا اكرر تنطبق التحليلات السابقة على الفقرة، واما مسالة الجذور فلا أحد يمكن ان يحسمها دموياً واجتماعياً وفكرياً، فهناك اختلافات، ولو ان تلك الأمم الثلاث وحدتهم المسيحية في الايمان واللغة التي فرضتها الكنيسة عليهم، ولكن من جوانب متعددة من حياتهم مختلفة فكريا ودموياً وبيولوجيا وشعورياً ليس بينها بل أيضا بين افراد الاثنية الواحدة. فضلا انها ليست مشتركة في التقاليد والقيم مع بعضها بل مشتركة أيضا مع اثنيات أخرى من العرب والكورد والترك والفرس بحكم الاحتكاك وانتقال العناصر الحضارية الثقافية.
غبطة البطريرك مار آوا الموقر:
كباحث اجتماعي نفسي ارى
مناشدتك ليكون القادة الروحانيين والكنسيين مثالاً صالحاً وجميلا من اجل الوحدة والمحبة الأخوية والتقارب، مع تقديري واحترامي لكم لا تجدي نفعاً ولا جدوى منها طالما ان ما تحمله من أفكار وفلسفة عن هذا الموضوع الذي غبطتكم بصدده كما وردت في كلمتكم. لماذا؟
قبل فترة لا تعدو شهرين اختزلتم ومع بطاركة اجلاء آخرون تراث الاثنيات الثلاث تحت تسمية سريانية، وكل بطريرك منكم ينتهز الفرص لتقديم طلب تثبيت تسمية معينه رسمياً، وفي كلمتكم الحالية التي بينت الفرق الكبير بينها وبين كلمة الكاردينال ساكو الموقر في الأفكار والمواقف والرؤى، فكيف تتوحدون ياترى؟
الوحدة ليست بالاندماج والانصهار في فئة معينة على حساب الفئات الأخرى وخصوصياتها وهويتها التاريخية، بل هي وحدة الموقف والكلمة والتعاون واحترام الاخر ورص الصفوف للتخطيط لصالح الاثنيات الثلاث مجتمعة والمطالبة بحقوقهم.
ان القومية او الشعور بالانتماء اليها او الى الامة ليست بضاعة تُباع او تُشترى، او تفرض بقانون رسمي او بالقوة او التأثير العاطفي المؤدلج، بل هي ظاهرة ترتبط بالمكنونات النفسية العميقة للفرد التي تدفعه للشعور بالانتماء الى قومية ما ويعتز ويفتخر بهذا الانتماء ليكون موحداً مع جماعته بعقلها الجمعي الموحد، ولا يمكنه ان يتنصل منها لانها حاجة (بايونفسية اجتماعية مركبة) تكونت وفقاً لغريزة اثبات الذات والميل النفسي متأثرة بالتنشئة الاجتماعية الاسرية مثلما تكونت لديكم وتراكمت عبر التمركز السلالي، وعليه تؤكد النظريات الاجتماعية الحديثة لا جدوى من كل المقومات والعناصر المشتركة بين مجموعة بشرية معينة ما لم يقترنها دافع الشعور بالانتماء. وقد يقول البعض وماذا عن الكلدان او السريان الذين يشعرون انهم اشوريين او بدأت مشاعل الشعور القومي عند الاشوريين على يد نخبة من السريان في تركيا؟ نعم هناك من هذا القبيل وهذه حالات شاذة ترجع مشاعرهم الى تحقيق منافع شخصية وبالأخص عند السياسيين منهم، او لحالات التأثر العاطفي عن طريق الاحتكاك، او لفقدان إمكانية اثبات الذات عند جماعته فيرى نفسه ومكانته الاجتماعية وتعكسها كالمرآة عندما ينتمي الى جماعة أخرى، وهناك عامل اللادري، او الجهل بأهمية دافع الانتماء لأنه في حالة الكمون عندهم، فهؤلاء لا يمكن قياس انتماء جماعة متكونة مثلا من مليون نسمة الى ما هم يشعرون.
ان الكلدان، ولأني كلداني اتحدث عن جماعتي القومية، لهم مشاعرهم القومية الانتمائية الكلدانية، وخطأ الذي يعتقد ان الكلدان ليست لهم مشاعر قومية كلدانية، فهم لا يميزون بين الشعور والوعي الذي يزداد ويترسخ عند الجميع ويزداد ترسيخاً كلما يسمعون ويقراون عن هكذا مواقف من إخوانهم الاشوريين، فضلا عن اختلاف شخصية الكلداني عن الاشوري المتعصب اذ اكثر قبولا بالواقع وادراكا له فلا تسبح في سراب الامجاد وإعادة الامبراطوريات بل يتكيفوا مع واقعهم أينما وجدوا في تكامل اجتماعي مع الاخرين سواء في الوطن الام او في الاغتراب وفقاً للاحترام المتبادل والمحبة والتعاون ويشاركون في تنمية المجتمع بكل ابعاده مع الاحتفاظ بمشاعرهم واعتزازهم وافتخارهم للانتماء الكلداني، فاليوم للكلدان علمهم الذي يميزهم في احتفالاتهم ونشيدهم القومي واغانيهم القومية، ولغتهم وافكارهم المشتركة، وكنيستهم وسياسييهم، وفعالياتهم الاجتماعية حيثما يعيشون، لهم مشاعرهم الانتمائية المشتركة لتقودهم الى التعاون ومساندة بعضهم عند الحاجة ولهم مؤسساتهم ومراكزهم الثقافية والاعلامية واتحاد الادباء والكتاب ورابطتهم واحزابهم ومناسباتهم القومية ومؤتمراتهم القومية العالمية وندواتهم، وبلداتهم وقراهم كلها تحمل تسميتهم القومية، ولهم مفكريهم فهم يعرفون بانتمائهم وتاريخهم وقوميتهم، وليسوا بحاجة الى مواعظ الاخرين لتعريفهم بقوميتهم التي لا تنفع ولا جدوى منها سواء من الروحانيين او من السياسيين.
اناشدكم غبطة البطريرك مار آوا الموقر، ان تكون رمزا لترسيخ سياق فكري لدى الاخوة الاشوريين ينصب في التفاعل الإيجابي واحترام الاخر في انتمائه والتعاون وتوحيد الكلمة والموقف امام التحديات التي تواجهها الاثنيات القومية الثلاث في الوطن وضع يد على يد دون المساس بمشاعر الاخرين وخصوصيات ثقافتهم وتفكيرهم، فأرجو ان تكون غبطتكم رمزاً لنبذ التعصب القومي الاشوري الالغائي المبني على الأوهام وعلى ما كتبه المؤدلجون السياسيون والمنتفعون، بل الرجاء مراجعة ما كُتب من قبل الاكاديميين المستقلين واخص بالذكر الأجانب الذين لا ناقة لهم بالاثنيات الثلاث، بل همهم هو العلم وتطوير المعرفة وكشف الحقائق. والابتعاد عن التزوير الذي تفشي عند بعض الكتاب الاشوريين والسياسيين المتعصبين للحقائق التاريخية وقد لاحظت شخصيا الكثير منها لا مجال هنا لذكرها، فالمفكرون الكلدان منتبهون لكل ما يحدث وهم يرصدون ذلك ويكشفونه.
مع بالغ تقديري لصاحبي الغبطة الكاردينال مار لويس ساكو ومار آوا روئيل الموقران، فاملي ان يلتقيا على روح المحبة المسيحية والتضامن في سياق فكري موحد يحترم خصوصيات الاثنيات القومية.