الكنيسة والصالح العام Common good
بمناسبة إفتتاح دار “طوبى للرحماء” للمسنات
رهبانية قلب يسوع الأقدس، دهوك 25 آذار 2023
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
يُشير مصطلح “الصالح العام” أو “الخير العام” الى موضوع صيانة الكرامة الانسانية عِبر تحقيق العدالة الاجتماعية، وحق العمل، والدخل اللائق، والضمان الاجتماعي ورفاهية مقبولة للجميع. هذا المبدأ مستوحى أساساً من القيم الأخلاقية وتعليم المسيح الذي أحبَّ الجميع، واحتضنهم حتى عندما كانوا يخطئون. محبّة المسيح شاملة، لخَّصها بهذه الوصية: “أحبِب قريبكَ كنفسكَ” (متى 22/ 39). والرسول يوحنا يقول: “كُلَّ مَن لا يَعمَلُ البِرَّ لَيسَ مِنَ الله ومِثلُه مَن لا يُحِبُّ أَخاه” (1يوحنا 3/ 10). نفس التعليم نجده مفصلاً في انجيل متى الفصل 25.
هذا ما ادركته الكنيسة منذ تأسيسها، لذلك لم يقتصر نشاطها على الجانب الروحي والعبادة فحسب، بل اهتمت بالصالح العام والعدالة الاجتماعية من خلال مدارسها ومعاهدها وجامعاتها، ومستشفياتها، وبيوت احتضان الايتام وذوي الحاجات الخاصة، وتقديم المساعدات من خلال جمعياتها الخيرية، ناهيك عن مواقفها الشاجبة للظلم والحرب والارهاب واستغلال الاشخاص. هذه سمة مميزة للكنيسة.
كنيستنا الكلدانية صغيرة مقارنة بكنائس العالم وواجهت تحديات كبيرة، لكنها كنيسة حيَّة تهتم بالخير العالم لها:
رياض أطفال ومدارس ابتدائية وثانوية متميزة وكلية لاهوتية وجامعة كاثوليكية في اربيل ومستشفيات في بغداد واربيل وعيادات طبية خيرية وبيوت أيتام للبنين والبنات ودور رعاية للوحدانيين والمسنين ومركز لاطفال التوحد والمصابين بالزهايمر في السليمانية وجمعيات خيرية في عدة مدن تقدم المساعدات للفقراء فضلاً عن العمل الجبار الذي تقوم به أخوية المحبة (كاريتاس العراق) للمحتاجين من دون النظر الى هويتهم. كما يشهد الكل بموقفها الوطني ودفاعها عن حقوق المواطنة الكاملة للجميع. |
يقول الكردينال الايطالي الراحل كارلو مارتيني: “بحق ان اكبر عمل محبة هو السياسة، عندما تُمارس من اجل نمو الخير العام، والأمان الحقيقي، والخير الأعلى وهو السلام، هذا ما يقوم به البابا والعديد من رجال الدين”.
تتواصل الكنيسة دائماً برأفة ومحبة مع كل إنسان، وتسعى لمساعدته على تحقيق كرامته الإنسانية كابن وبنت لله. هذا الاهتمام مارسه البابوات، خصوصاً البابا الحالي فرنسيس، والبطاركة والاساقفة في مواقفهم وخطاباتهم.
تعليم الكنيسة لمبادئ “الخير العام” لم يبدأ مع البابا لاوون الثالث عشر في “Rerum Novarum”عام 1891، إنما نراه في الفكر المسيحي عبر القرون. هذا التعليم يستند الى الكتاب المقدس الذي يؤكد ان الله خلق الإنسان، وأعطاه الأرض ليستثمرها ويتمتع بثمارها ويشارك الآخرين فيها. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم (347-407) في تفسير مزمور 14: “الانسان كائن اجتماعي وسياسي من خلال العلاقات والحياة المشتركة. يطلب الله منا ان نُعطي من يسألوننا، وان نفكر في احتياجات كل واحد. فقد قال: من سألك فأعطه” (متى 5/ 42).
هذا التعليم نجده في رسالة البابا بيوس الحادي عشر في السنة الرابعة لحبريته عام 1931،
كذلك في الدستور الرعوي للمجمع الفاتيكاني الثاني حول الكنيسة في عالم اليوم (فرح ورجاء رقم 26 و 74) ان الخير العام هو “مجمل أوضاع الحياة الإجتماعية التي تمكن الأشخاص والجماعات من تحقيق ذواتهم تحقيقاً أفضل وأسهل. وأن السلطة السياسية تندرج في الشرع الطبيعي. فالله وضع للعالم نظاماً لكي يعيش الناس والشعوب في سلام، ويتفاهموا ويرعوا شؤون مدينة الأرض. وينعموا بالخير والعدل”، ودَعَت الى تعزيز كرامة الانسان، والاسرة، والصالح العام والاقتصاد والعمل السياسي (رقم 25) |
اذكر مقولة البابا بولس السادس “التطور المتكامل لكل إنسان وللإنسان كله”، (ترقي الشعوب عام 1967). كما دعا البابا يوحنا بولس الثاني بلا توقف الى الاهتمام بالآخرين، وبالصالح العام، بدل الاهتمام بالنفس.
بمبادرة من المجلس البابوي للعدالة والسلام، صدرت في عام 2004 خلاصة منهجية شاملة للعقيدة الاجتماعية للكنيسة الكاثوليكية.
يذكرنا البابا فرانسيس كثيراً، بأن تلاميذ المسيح يرافقون الآخرين بمحبة.
إذن مسألة الكرامة الانسانية في جانبها الفردي والجماعي يجب أن تكون الموضوع الاساسي لاهتمامات الحكومات والمؤسسات الدينية والمدنية. يتحتم على المجتمع أن يضع نفسه في خدمة الانسان: حماية الاسرة، والضعفاء والاطفال، وتعزيز الكرامة الإنسانية على جميع المستويات، ومحاربة أنواع التمييز الاقتصادي والسياسي واللغوي والعرقي والديني.
من المؤكد ان الكنيسة ليست بديلاً للدولة أو موازية لها، وإنما هي جزء من المجتمع وتسعى للشراكة الفاعلة والحقيقية في الحفاظ على الخليقة، وتحقيق العدالة وتطبيق قوانين حقوق الإنسان.
هذه العقيدة تعلمها الكنيسة في جامعاتها وتدرب طلاب الكهنوت في معاهد التنشئة على الالتزام بالعدالة الاجتماعية والصالح العام.