في الذكرى السنوية الثانية لزيارة بابا الفاتيكان للعراق:
البابا فرنسيس: إرادة حديدية ورؤية إنسانية
لويس إقليمس
بغداد، في 25 شباط 2023
قد تتقاطع الرؤى وأشكال الحُكم بخصوص ولاية بابا الفاتيكان فرنسيس (خورخي برغوليو) الأرجنتيني الجنسية وأنشطته وآرائه الجريئة في بعضٍ منها لدرجة عدّه شخصيةً جدلية من وجهة نظر فلسفية ودينية. لكنّ أغلبية الآراء لا تنكر له “كارزميته” الإنسانية وانفتاحه الإيجابي على شؤون الدنيا وحاجات الإنسان وشعوب الأمم الروحية والمادية والفكرية والسياسية والاقتصادية على السواء، ولاسيّما انفتاحه الحثيث للحوار والانفتاح لمختلف التيارات والأديان. فهو الرجل الذي تُختزل في شخصيته كل هموم الكنيسة، بل المسيحية بصفتها الإنسانية الجامعة للأمم والشعوب المُحبة للسلام والعيش الكريم والحوار والتفاهم الإيجابي بالرغم من اختلاف الرؤى والمصالح والمشارب القومية والدينية والسياسية إزاء هذا الدّين المسالم والمتسامح عبر العصور وفي كل الأوقات والأزمان. بل يرى فيه البعض وهو يقترب من حبريته العاشرة، إنسانًا “بطبيعة حديدية” اكتسبها بفعل تحركاته وتنقلاته ورحلاته المتعددة التي وُصفت بالجريئة والخطرة في آنٍ معًا والتي حملت كلّ واحدة منها قصة عشق بابوي خاص بمغزاها وحيثياتها وتوجيهاتها وروحيتها ودروسها. ومنها زيارته الأخيرة إلى جمهورية الكونغو الشعبية وجنوب السودان في عمق أفريقيا، وقبلها زيارتاه إلى العراق في 2021 ودولة الإمارات العربية المتحدة في 2019 وأخرى غيرها. ونظرًا لما لهاتين الزيارتين الأخيرتين للمحيط العربي من تحديات شخصية وكنسية وطبيعية، فقد كسب قداستُه ودّ شعوب البلدين وساستهما وحكوماتهما ومعهما شعوب المنطقة العربية عمومًا عبر تحقيق نتائج إيجابية لإصلاح أفكار ورؤى مشوشة ومشوّهة وسلبية في الحكم المسبق. ويكفي أنّه تجرّأَ لكسر طبيعته السابقة قبل انتخابه على رأس الكنيسة الكاثوليكية بالتزام “البيت” وتجنّب السفر لسنوات لغاية تولّيه مهامه البابوية قبل عشر سنواتٍ خلت، ما منحه صفة الرحّالة التي اتسم بها بعضُ أسلافه من بابوات الفاتيكان مثل بولس السادس ويوحنا بولس الثاني على وجه الخصوص، بتحقيق رحلات دولية بلغت الأربعين رحلة لغاية الساعة، بالرغم من حراجة بعضها وخطورتها وبسبب معاناته من بطء في السير والحركة لخلل في إحدى ركبتيه، ما جعله أسير كرسيّ متحرك في أغلب الأحيان.
ممّا ينبغي الالتفات إليه، أنّ أية زيارة يقوم بها أيّ رأس للكنيسة الكاثوليكية، فإنّ لها حيثيات وأسباب وتطلعات ومعايير مرتبطة بشعوب تلك المنطقة أو ذاك البلد، بحيث يتبادر إلى الأذهان وكأنه يشاء خلقَ رواية محبوكة تبقى آثارُها لسنواتٍ بل لعقودٍ وقرونٍ قادمات في المعنى العميق والهدف العام. لذا يكون نوع الاختيار من بين الأسباب التي تحثّ على الرحلة بالرغم من مكامن الخطورة والحراجة وذلك من أجل تحقيق نتائج للصالح العام وليس فيها أو بين طياتها ما يوحي إلى مصالح شخصية كما يحصل لدى ساسة الدول والحكومات التي تبحث عن مصالح ومنافع محدودة الرؤية والتطلعات. ففي اختياره لآخر زيارة تحققت إلى القارة الأفريقية بعد الزيارة الأولى إلى أفريقيا الوسطى في 2015، أراد أن يذكّرَ بما تعانيه هذه القارة من مصاعب وقلاقل ومشاكل اقتصادية وسياسية بسبب الحروب والاقتتال بين أبناء البلد الواحد، لغاية فقدان القدرة على عيش الحياة الكريمة عبر تحقيق حوار وطني وسلك وسائل التفاهم المتاحة بين أبناء البد الواحد. وذات الهدف قصدَه في زيارته إلى تشيلي في أمريكا اللاتينية في 2018 لما لهذا البلد من تاريخ دموي في الانقلابات والحراكات العسكرية التي أنهكت قواه وامتدت في تأثيرها إلى شعوب القارة بعمومها.
أمّا زيارتُه إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في 2019، فهي تؤشر دلالات عميقة في معانيها كدولة عربية لها خصوصيتُها الإسلامية وسط شعوب المنطقة والعالم في درجات النضج الإنساني والانفتاح السياسي والتفاهم الديني مع العالم الخارجي بحيث أضحت درةَ المنطقة في تعافيها وصلاح ساستها وأمان شعوبها وسلاسة تعاملها مع غيرها وفق مبادئ الإنسانية التي ماتزال بلدانٌ عديدة تفتقد إليها في سياساتها الخاطئة والمتعثرة. فقد استفاد قادة هذا البلد من تجارب الغير واحتكموا إلى العقل والروية في قيادة شعوبهم عندما توحدت الكلمة تحت راية بانيها الأول، رحمه الله. وقد نجم عن شكل هذا الانفتاح ذلك اللقاء التاريخي الذي لا يمكن نسيانُه، عندما اتفق شيخان وقائدان دينيان لتحقيق أمنية صنّاع السلام وأدوات المحبة والحوار والتفاهم في هذا البلد الحاضن لبشرٍ من جنسيات وأديان ومعتقدات مختلفة، بالتوقيع على وثيقة الأخوّة الإنسانية في 4 شباط 2019، والتي تصدّرت الأحداث وماتزال تحظى بمتابعة وارتياح دوليّ منقطع النظير. وستظلّ كذلك، بسبب إرسائها سبل الحوار الهادئ بين أكبر ديانتين توحيديتين مهمتين في العالم، ما حثّ المجتمع الدولي وأمين عام المنظمة الدولية لإعلان هذا التاريخ “يومًا دوليًا للأخوّة الإنسانية”. وفي هذا معانٍ كثيرة وعديدة سوف تتحدث عنها الشعوب والأمم باختلاف أديانها ومعتقداتها لسنوات بل لعقودٍ وقرونٍ. لقد وضعت هذه الوثيقة النقاط على الحروف فيما يتعلّق بواجب احترام الغير المختلف في الدين والمعتقد من منطلق وجوب احترام خيار الآخر الذي يشكلُ قاعدة أسمى لتعاون مثمر ودائم بين الإخوة في الإنسانية وصولاً للتكامل الذي يشكل قوةً مضافة للعمل السلمي والعيش المشترك وفق مبادئ الخالق الذي خلق الجميع متساوين في كلّ خير حتى في اختلافهم الإتني والديني والفكري. فحيثُ أسعى أنا لأنالَ احترامَ الآخر المختلف عنّي، يتوجب عليّ أنا أيضًا أن أقبل باحترام الاختلاف الذي عليه مَن يواجهني ويقابلني ويعيش بالقرب منّي.
العراق في وجدان البابا
تزامنًا مع الذكرى السنوية الثانية لزيارة بابا الفاتيكان فرنسيس للعراق للفترة من 5-8 آذار 2021، يعيدُ العراقيون وأصحابُ النوايا الطيبة في العالم إلى الأذهان ما صاحبَ تلك الزيارة التاريخية الميمونة من مظاهر الفرح والارتياح في توقيتها وما جرى فيها من لقاءات ومباحثات وتبادل رؤى وأفكار من أجل تعزيز السلم المجتمعي وترسيخ سبل العيش المشترك في بلدٍ تمزّقَ نسيجُه الاجتماعي وتحطمت طموحاتُه بسبب تقاطع المصالح واستشراء أدوات الفساد واللصوصية وهدر للثروات الوطنية من جماعات سياسية ودينية دخيلة وطارئة على البلد وعلى المجتمع المتكافل منذ خليقته، إضافةً إلى ما ناله أتباعُ أديان ومكوّنات أخرى من تهميش واهمال واعتداءات وأشكالٍ من التمييز في الحقوق في شؤون الوطن، وما أكثرها. ومن أبرز تلك المظاهر الوطنية التي رافقت تلك الزيارة، القرار الوطني للحكومة العراقية بإعلان يوم 6 آذار وهو يوم اللقاء التاريخي بين قطبي الكثلكة في العالم والشيعة في العراق “يومًا وطنيًا للتسامح والتعايش“. وهو ما شجّع عناصر أخرى لاحقًا لتوظيف هذا الشعور في مواصلة الحوارات والقاءات بين أبناء الوطن الواحد عبر مؤسسات دينية ومنظمات وجمعيات أخذت على عاتقها التواصل بذات النهج لإنضاج وسائل المصالحة والتسامح التي أعلن عنها قداستُه سبيلاً واعيًا وناضجًا لأجل قبول الآخر المختلف باحترام المشتركات الإنسانية بين أتباع الأديان والمعتقدات في بلدٍ تحققت فيه عبر الأزمان كلُّ دلالات الحضارة والرقيّ عندما كانت بلاد ما بين النهرين ملهمةَ العالم ورافعةً لسارية البناء والرقيّ بلا منازع.
بحق مثّلت هذه الزيارة تحديًا لا مثيلَ له بسبب المعوقات العديدة التي وُضعت من أجل عدم تحقيقها وفق رؤية البابا فرنسيس. فقد أتت في وقت الذروة السلبية بعد سنواتٍ من القضاء على أبشع تنظيم إرهابي خلطَ الأوراق بين الإخوة الأعداء من ساسة الصدفة وراكبي موجة الوطنية الزائفة وتسبّبِه بتشريد أبناء المكوّنات الهشّة في مناطق عديدة من سهل نينوى ومحافظات أخرى، ولاسيّما من المسيحيين والإيزيديين ممّن لا سندَ لهم في الحكومات العراقية المتعاقبة بعد السقوط القاتل على يد الغزاة الأمريكان في 2003. لقد كانت مظاهر العنف والعداء وأشكال القصور في الأداء الحكومي لشبه الدولة بسبب ولاءات معظم الساسة لدول الجوار والخارج بعيدًا عن الهاجس الوطني الغائب لغاية الساعة، هي السائد عمومًا، إضافة إلى التباطؤ في إنصاف هذه المكوّنات الهشّة التي أحالها الزمن الغادر إلى “أقليات” وطنية مهزوزة لا معين لها ولا سلوانَ سوى كلام الساسة المعسول من الأحزاب المتحكمة بالسلطة وبمقدّراتها في النهب والسلب واللصوصية والتهميش المتعمد لأصحاب الحق والكفاءات في البلاد مع ندرة من أدوات هزيلة بالإدانة والاستنكار من دولٍ وحكومات ومنظمات لم تأتي أُكلها ولا نتائجها بسبب ضعف تفاعل المنظومة السياسية القائمة على المحاصصة وتقاسم المغانم وبغيابٍ واضح لحقوق ومطالبات أتباع المكوّنات الهشّة الأصيلة في البلاد.
لقد اطلع العالم على ما ناله المكوّنان المسيحي والإيزيدي بصورة خاصة، من قسط رهيبٍ بالفتك والبطش والإرهاب والتشريد والتهجير القسري والنزوح على ايدي التنظيمٍ الإرهابي بسبب تقاعس طيفٍ من الساسة وتآمرهم على محافظات عراقية وطنية معروفة بأصالة مكوّناتها وتجذّرها في أرض الإباء والأجداد لحدّ فقدان الصبر والآمال بأشكال الوعود العرقوبية التي لا تغني ولا تسمين من جوع. فكانَ أن جرى تدمير بيوتهم وكنائسهم ومعابدهم وتشريد مواطنيهم واغتصاب وقتل البعض منهم بأبشع الوسائل وأقسى الطرق الممنهجة. من هنا جاءت زيارة البابا فرنسيس إلى مدينة الموصل بخاصة، وبلدة قرقوش السريانية بالذات، لما لهذه الأخيرة من وقع ديني وبنيوي هام من حيث كونها أكبرَ تجمّع مسيحي في العراق وربما الشرق الأوسط. لقد أراد البابا بهذه الزيارة تهدئة النفوس ووضع حدود لأشكال التهميش والإهمال والاستبعاد عن مواقع السلطة والتوظيف والسعي لردم الأضرار بمطالبة الدولة والحكومة باحترام الجميع وفق مبادئ وطنية وعدالة إنسانية ومساواة في الحقوق والواجبات. وهذا ما حدا بالبابا فرنسيس لتحقيق لقاء تاريخيّ في 6 آذار 2021، مع الشيخ الشيعي المعتدل علي السيستاني، وهو أعلى مرجع شيعي في العراق كي يجدّد سماحتُه تأكيدَ عبارته المأثورة لرأس الكنيسة العراقية غبطة البطريرك لويس ساكو في أحد لقاءاته “أنتم جزءٌ منّا ونحن جزءٌ منكم“، في نداءٍ واضح لاحترام خصوصيات كافة المجتمعات الوطنية من دون تمييز داعيًا لإنصاف المكوّنات الهشّة في المجتمع العراقي. ويكفي إدانة الشيخين الجليلين لأشكال التطرّف والعنف عبر وسائل الإعلام وهي تنقل عناق الرجلين في مشهد بانورامي “أيقوني” صارَ جزءً من فكر العراقيين في الانفتاح والحوار والتفاهم، دلالة على إمكانية تحقيق المعجزات عندما ينفتح الفكر المنغلق على الآخر المختلف ليخلق صورة إيجابية في المحبة والتآلف الإنساني والمجتمعي بين المختلفين عقائديًا وإتنيًا ودينيًا، شكلاً ولونًا وفكرًا.
لقد صبّ هذا اللقاء التاريخي دلالاتِه الكبيرة في حاضنة الحوار الديني المفتوح الحاضر في العراق منذ سنين بين مختلف الأديان والمذاهب وصولاً إلى مجتمع يسوده الانسجام ويجمعهم حب الأوطان والمشاركة الوجدانية في الأفراح والأتراح وكلّ المناسبات وبما لا يخلق إرباكًا وخلطًا للموجبات والتحذيرات والمستحكمات، بالرغم من محاولات يائسة لجهاتٍ وجماعاتٍ التصيّدَ بالماء العكر عبر التشكيك بقدرة الحوار على العيش السلميّ المشترك بين أبناء الوطن الواحد والمشاركة في إعادة بنائه وفق مبادئ إنسانية ووطنية خالصة لا تقبل بالولاء المشبوه لجهات من خارج السور الوطني، والعربي منه بصورة أدق. فلا أحدَ يستطيع الوقوف بوجه الخير وما يأتي به من مناسك المحبة والتسامح والتشارك والبناء والإعمار لأجل الصالح العام قبل أيّ شيء. كما أنَّ الأوطان لا يُعمّرها العتاة والقتلة واللصوص والسراق والمنافقون، كما لا يبنيها الكذابون والمتجلببون بالدين والمذهب والطائفة مكرًا ونفاقًا ورياءً، بل مَن في ضميره بعضُ ذرّات المحبة والاحترام والمدنية والانفتاح والإنسانية بحسب الخيارات الطيبة والحسنة لمثل هذا الصنف من البشر. فمرحى لكلّ فاعل خيرٍ لأجل الإنسانية!