رسالة راعوية بمناسبة الصوم الكبير 19 شباط 2023
الصوم مسيرة توبة وتغيير سلوك وتوجيه الحياة نحو الله
والتمسك بكلدانيَّتنا
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
التأكيد على الطابع اللاهوتي والروحي للصوم
يعرف الصوم بانه زمن الرجاء في حياة المسيحي. والصوم لا يقتصر على الجانب المادي فحسب، إنما الأهم هو العبور الى الطابع اللاهوتي والروحي المؤسس له، للتغلب على التحديات التي يواجهها، خصوصا ان القيم الدينية والأخلاقية تراجعت في زماننا، بسبب التغييرات المتسارعة، وهيمنة التقنيات التكنلوجية ودخول الإنترنت الى الحياة، ما أدى الى حدوث بعض التصدع في البنية الاجتماعية، واختلال مفهوم الحرية والمسؤولية، وتهافت الناس على كسب المال والنفوذ من اجل الملذات. وقد غدت غالبية المجتمعات أقل التزاماً بالدين، واقل حيوية وحماسة وانضباطاً.
أدى ظهور هذه البيئة المعقدة والهشّة الى اللامبالاة بالقيم الدينية والأخلاقية، لذا تحاول الكنيسة خلق فرص (أزمنة طقسية) للتفكير والنقد الذاتي والتوبة والتغيير، لتوجيه بوصلة حياة المسيحيين. المهم ان نقصد ونفعل. وكما يقول المثل الإنكليزي: Practice makes perfect، أي التدريب يصنع الكمال. قال يسوع لتلميذين أرادا ان يتبعاه: “هلمّا وأنظرا.. فذهبا ونظرا أين يقيم، فأقاما معه ذلك اليوم” (يوحنا 1/ 39)، اي أن المسيح هو المرجع الذي لا بديل له. لذا على المسيحي أن يجدد خياره مثل مار بطرس: “يا رب الى من نذهب وعندك كلام الحياة” (يوحنا 6/ 68).
المسيحي مدعو الى القيام بالخطوات عينها، لتنفحه الإقامة مع يسوع بحياة الله من الداخل. يقول البابا الراحل بندكتوس السادس عشر: “الإيمان ليس سوى أن نلمس يد الله في ظلمة العالم، فنسمع هكذا كلمة الله في الصمت، ونرى الحبّ” (رياضة الصوم الكبير في 23 شباط 2013).
تتدرج مسيرة زمن الصوم ابتداءً من الصيام ثم الصلاة، والتأمل والتوبة والاعتراف بالخطايا وإصلاح الذات الى الوصول الى نور القيامة وفرح العيد. يرتكز صوم المسيحيين على صوم يسوع، من خلاله تهيئة الذات لاستقبال الله في حياتنا. هذا هو رجاؤنا.
الصوم
ينبع زمن الصوم من إيماننا ومعموديتنا التي تجعل منا خليقة جديدة، وتدمجنا في الجماعة الحية المتمثلة بالكنيسة، جسد المسيح السرّي.
حينما ننفتح على كلمة الله، ونصغي اليها (تعليم المسيح) نكون قد سرنا نحو الحياة الأبدية. الحياة الروحية “باب ضيّق” (متى 7/ 13)، لكن بتجسيدنا كلمة الله والمواظبة على الصلاة والتوبة وخدمة المحبة (الإحسان) نتقدم فيها ونرتقي.
هذا السعيُّ بلا شك هو مسالة وجودية. لذا حان الوقت لرفض السلوكيات الشريرة من فكرنا ومن محيط عائلاتنا والالتزام الثابت بإيماننا وروحانيتنا لتترك بصماتها العميقة في حياتنا وحياة عائلاتنا وكنائسنا. ولا بدّ أن تؤثر شهادتنا على من حولنا.
تعد ممارسة الصوم، الإمساك عن الطعام والشراب والعلاقات الزوجية لفترة من الزمن فرصة لتطويع غرائز الإنسان الشريرة والسيطرة عليها.
يشدد نرساي (القرن الخامس)على: “صوم اللسان، وصوم الآذان، وصوم العقل، وصوم العينين من الأفكار الشريرة والنظرات الخبيثة” (منكنا، مجلد 1 ص 108). هذه تعد من مكملات الصوم المادي المتعلق بالامتناع عن الطعام، وتساعد على هضم الإيمان في جسدنا وفكرنا وروحنا.
في ظروفنا الحالية المعقدة بإمكان العائلة أن تنظم نوع صيامِها بحسب الوضع الذي هي فيه، لكن المهم أن تلتزم بروحانية زمن الصوم، أي الصوم عن الرذيلة.
من المفيد التذكير بان كرازة يسوع تمحورت حول “التوبة والتغيير”. يقدم لنا الإنجيل يسوع متنقلا من مكان الى آخر مبشراً بكلمة الله، وداعيا الناس الى الإنصات والانجذاب اليها والدخول الى حياة جديدة عبر التوبة والتغيير. كان يكرّر في كرازته: “تُوبوا، قدِ اقتَرَبَ مَلكوتُ السَّمَوات” (مرقس 1/ 15) و”اصنعوا ثماراً تليق بالتوبة” (متى 3/ 8).
الصوم قبل أي شيء هو قبول كلمة الله بقلب منفتح ومصغ، وعيشها في تفاصيل الحياة اليومية: “من كان من الله، سمع كلام الله” (يوحنا 8/ 47) و”إذا ثبتّم في كلامي صرتم حقًا تلاميذي” (يوحنا 8/ 31). و”ليس بالخُبز وحدَه يحيا الإنسان، بل بكلِّ كلمةٍ تخرج من فم الله” (متى 4/ 4). كلمته عندما تدخل قلبنا تحفزنا على التوبة (التطهير الداخلي) وتوجه حياتنا لنعيش في النور الذي يمنحه حضور الله: “كلمتك مصباحٌ لخطاي ونورٌ لسبيلي” (مزمور 119/ 105).
كيف العبور الى الطابع اللاهوتي والروحي للصوم؟
- عِبر دراسة كلمة الله، بقلب طيّب وشوق، والتعمق فيها، واكتشاف بلاغاتها، ومشاركة الآخرين فيما اكتشفناه. وكما قال فيليبس لنثنائيل: “لقد وجدناه تعال وانظر” (يوحنا 1/ 45)، علينا أن ندعو الآخرين: أولادنا أقرباءنا، أصدقاءنا وجيراننا الى الانضمام الينا ومعرفة ما اكتشفناه وعشناه لأننا بهذا نكون قد سرنا على خطى الرسل الذين يعلمون ما تعلموه وعاشوه.
يرسم ابراهيم النثفري طريقة عملية دقيقة لقراءة الكتاب المقدس: “اجمع أولاً أفكارك، وطهّر قلبك من كل إعتبار غريب. وعندما تكون مستعداً تماماً، ادخل الى أعماق قلبك، واشعل بزيتِ الإيمان سراجَ عقلك، فيضيء في هيكل “إنسانك الباطن”، وأشْدِد حقوَي ضميرك بنار الحبّ. لا تقرأ لمجرد القراءة، إنما اقرأ حتى تفهم. لا تقرأ وفكرك قلق. لا تقرأ للمتعة. لا تقرأ من باب الفضول، بل اقرأ جملة بعد جملة، وحلّلها واكتشف معناها” (ساكو، آباؤنا السريان ص 253-254).
- عِبر المواظبة على الصلاة. من دون الصلاة لا فائدة من ان نكون مسيحيين، ولا نستطيع الدخول في علاقة وجدانية مع الله. فالصلاة من فعل وصل –صلة. مسيرة المؤمن مطبوعة بالصلاة، لأن الإيمان يقود الى الصلاة. من لا يصلي لا يفهم الإيمان. الصلاة لا تنفصل عن الحبّ، ومن يعرف معنى الحبّ، هو وحده يقدر أن يصلي، لا بشفتيه فحسب، بل بكلِّ كيانه. الصلاة تعني ان الله حاضرٌ في حياتنا. لانها علاقة حية وشركة روحية مع الله، بعيدا عن أعتبارها واجباً وفرضاً علينا. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم (347-407): “ليس هناك ما يُضاهي الصلاة. إنها تجعل مستطاعاً ما هو مستحيلٌ، وسهلاً ما هو عسيرٌ. يستحيل لمن يصلي أن يرتكب الخطيئة” (الباترولوجيا اليونانية. PG 54.666). الصلاة ليست بحثا لاهوتيّاً، بل الصلاة تركز على من ننتظر. وهنا أؤكد على المشاركة في القداس وتناول القربان لاستمرار بقائنا مع يسوع والسير نحو الحياة الأبدية منذ الآن.
- عِبر التوبة. التوبة Metanoia التي تعني أن تُدير وجهك على الماضي المحزن، وتتوجه الى اُفقٍ جديد. التوبة في الإنجيل تعني الإنتماء الى يسوع والتتلمذ له، عِبر الاهتداء الدائم بالإقرار بالخطايا وإصلاح الذات، ومغفرة الآخرين زلّاتهم ومصالحتهم. المصالحة هي في قلب التوبة.
من المؤسف أنَّ ممارسةَ التوبة تمر حالياً بأزمة، بسبب الجهل، وحالة اللاوعي بالخطيئة. التوبة والاعتراف بخطايانا تساعدنا على تجاوز ضعفنا، وتطهير ذاتنا، وتمنحنا الفرصة للعودة الى البيت الابوي (الابن الشاطر، لوقا فصل 15)، والمضيّ نحو الأفضل.
يصف اسحق النينوي (القرن السابع) التوبة قائلاً: “إن التوبة اُم الحياة. وهي تفتح لنا بابَها، بالهرب من كلِّ شيء. والنعمة التي فقدناها بعد العماد بالسيرة المتراخية، تُجددها التوبة فينا بتمييزات العقل. لقد لبسنا المسيح من الماء والروح، ولم نشعر بمجده. بالتوبة ندخل إلى نعيمه، بمعرفة التمييزات التي تظهر فينا. ومن حُرم من التوبة، حُرم من النعيم العتيد” (الطريقة ص347).
وينصح إبراهيم النثفري ألّا يستسلم الروحاني لليأس عندما يخطأ، فالتوبة علاجٌ: “لا ترتبك اذا هاجمتك الشهوات الطبيعية، فهي ضيوف الجسد تأتي اليه. وان حصل لك إن سقطتَ في لحظة ما، فلا تيأس، اذ ستجد العلاج في التوبة. إن النعمة تغطي كل فشل شرط ألا تستسلم للخصم” (آباؤنا السريان ص 250).
4 . عبر محبة الفقراء–الصدقة. الصوم هو زمن الصدقة التي هي ركن أساسي له. يقول يسوع: “أعطوا تعطوا” (لوقا 6/ 38)، أي اذا أعطيتم الرب يعطيكم.
الصوم مناسبة لمساعدة المحتاجين بما وفرناه بصيامنا. يقول إشعيا: “أَلَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟ حينَئِذٍ يَبزُغُ كالفَجرِ نورُكَ ويَندَبُ جُرحُكَ سَريعاً ويَسيرُ بِرُّكَ أَمامَكَ ومَجدُ الرَّبِّ يَجمعُ شَملَكَ” (إشعيا 58/ 6-8). يؤكد يسوع على أن دينونتا تعتمد على محبتنا: “تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم: لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ”. فيُجيبُه الأَبرار: “يا رَبّ، متى رأَيناكَ جائعاً فأَطعَمْناك أَو عَطشانَ فسَقيناك؟ ومتى رأَيناكَ غريباً فآويناك أَو عُرياناً فكَسَوناك؟ ومتى رَأَيناكَ مريضاً أَو سَجيناً فجِئنا إِلَيكَ؟” فيُجيبُهُمُ المَلِك: “الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه” (متى 25/ 35-40). بمعنى آخر يجب أن تصبح محبتنا مُنصبّة على إخوَّتنا.
ماذا نفعل عملياً لمساعدة الفقراء
مساعدة الفقراء واجب مقدس خصوصاً في الأزمة الاقتصادية العالمية والعراقية التي نعيشها. وأيضاً في ظل الزلزال الرهيب الذي ضرب تركيا وسوريا وخلف الآف الموتى والجرحى ودمَّر الآف المباني. اقترح أن يوضع صندوق خاص في كل رعيّة تحت اسم: (صندوق الصوم لمساعدة الإخوة المحتاجين).
اليكم بعض الافكار وبإمكانكم إكتشاف مجالات اُخرى.
* الامتناع عن تناول اللحم أو السمك في الاسبوع الأول والأخير ووضع ما وفّرناه في صندوق الصوم. ملاحظة: لا يُصام يوم الأحد بحسب ليتورجيتنا.
* الامتناع عن التدخين وشرب الكحول خلال الصوم، وإعطاء المبالغ التي نصرفها عليها لمساعدة الفقراء.
* الامتناع عن تناول الفاكهة اليومي والاكتفاء بأكلها بين يوم ويوم
* الامتناع عن المكياج والاكتفاء بالجمال الطبيعي وإعطاء تكاليفه للفقراء.
أهمية التمسك بهويّتنا الكلدانيّة
الكلدان في كل مكان بأمس الحاجة الى التوعية والتمسك بكلدانيتهم بعد فترة اللامبالاة والتشتت والتمزق. الصوم هو فرصة مهمة للتحول والعودة الى هويتنا المسيحية الكلدانية الكاثوليكية والاعتزاز بقوميّتنا، أي الى أن نعيش إيماننا والتزاماتنا الإنسانية والاجتماعية والثقافية على مثال قدّيسينا وشهدائنا. هذه العودة الى الينابيع الصافية تتطلب قراءة لتاريخنا وتراثنا الروحي والليتورجي، قراءة معمَّقة لاستخلاص العِبر لحياتنا اليومية، فالمستقبل تصنعه تراكمات ما تعلمناه في كل الأزمنة.
وبهذه المناسبة أدعو خصوصاً كهنتنا وشبابنا وشاباتنا الى دراسة تاريخ الكلدان، وكتابات الآباء اللاهوتيين والروحانيين العظام والتعمق في معاني طقوسنا بانفتاح ومن دون التقوقع، والحفاظ على خصوصيّة بلداتنا ولغتنا. واطلب من أساقفتنا الأجلاء تشجيعهم ومتابعتهم.
على الكلدان الذين تركوا أمتهم أن يعودوا اليها، ويبنوا بيتهم الكلداني بقوة ويعدوا الحاضر والمستقبل بثقة. عليهم ان يرفضوا التسمية المركبة كلداني سرياني آشوري!!! لأنها مزج هجين يقصد بها اللاهوية!! كما ادعوهم الى التعاون مع السريان والآشوريين والأرمن لتقوية الحضور المسيحي، باحترام الخصوصيات والتضامن الأخوي من دون إقتناص أو إلغاء، في سبيل تحقيق الخير العام للجميع.
تقييم ختامي
أخيراً حيث يكون السلام والاُخوّة والمحبة والفرح والابتعاد عن كل أشكال الرذيلة، نكون قد صمنا، ويكون الله قد ملَكَ في داخلنا.