مريم معلمة الصلاة
المطران رمزي كرمو
اسطنبول 8/ 1 / 2023
لا نستطيع الكلام عن موضوع الصلاة الذي هو جوهري وأساسي لحياتنا المسيحية من دون التطرق الى امنا العذراء مريم التي اختبرت قوة الصلاة في حياتها اختبارا عميقا وأثمرت ثمرا مباركا فريدا من نوعه.
إن أحسن وأوثق مصدر نتعرف من خلاله على مريم “معلمة الصلاة” هو انجيلنا المقدس الذي يكشف لنا أهمية الصلاة في حياتها.
تتصدر صلاة مريم إنجيل لوقا حيث يسرد لنا نشيدها حين زيارتها الى نسيبتها اليصابات وهي حامل بابنها يوحنا. (لوقا 1/ 46 – 56). هذا النشيد الذي هو اقتباس من العهد القديم، خاصة من عدة مزامير، يكشف لنا أحد الأبعاد المهمة لصلاة مريم وهو أن صلاتها كانت تستند على كلام الله الحي وتتغذى منه. هذه هي الصفة الأساسية التي يجب أن تتميز بها الصلاة المسيحية. لا صلاة مسيحية مثمرة من دون أن تتجذر عميقا في كلام الله وتكون مغروسة فيه. إن كلام الله هو التربة الجيدة والخصبة التي فيها تنمو وتثمر صلاتنا.
أما الميزة الأخرى التي نجدها في صلاة مريم امنا فهي في هذه الآية: “وكانت مريم تحفظ جميع هذه الأمور وتتأملها في قلبها” (لوقا 2/ 19). على ضوء هذه الآية نستنتج بأن الصلاة التأملية هي تلك الصلاة النابعة من قلب يخيم عليه الصمت والسكوت . مريم، من خلال صلاتها التأملية اكتشفت تدريجيا السر الذي كان يحمله إبنها وهكذا كان ينمو إيمانها به وتزداد حبا له. لنقرأ ونتأمل: ” فقالت له أمه: يا بني لم صنعت بنا ذلك؟ فأنا وأبوك نبحث عنك متلهفين. فقال لهما: ولم بحثتما عني؟ ألم تعلما يجب علي أن أكون عند أبي؟ فلم يفهما ما قال لهما” (لوقا 2/ 48 – 50). إن الصلاة التأملية تجعلنا أن ندخل الى سر الله لكي نختبر محبته لنا ونندهش بجماله الذي لا يوصف .
من المؤسف جدا أن نرى اليوم أن الصلاة التأملية الصامتة قد فقدت أهميتها لدى الكثير من المسيحيين بصورة عامة ولدى الذين تسلموا القيادة الروحية في الكنيسة كالأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات بصورة خاصة. إنها ظاهرة خطيرة تدعو الى وقفة لمراجعة الحياة على ضوء تعاليم الأنجيل التي تذكرنا جوهر رسالتنا الكنسية وهدف دعوتنا الكهنوتية والرهبانية.
“ولكن الروح القدس يحل عليكم ستنالون قوة وتكونون لي شهودا في اورشليم وكل اليهودية والسامرة”. (أعمال 1/ 8). البابا فرنسيس لا يكف عن التذكير بأهمية الصلاة والحذر من السقوط في تجربة الإنجازات والفعاليات المرئية والملموسة التي يمكن ان تقود إلى حب الظهور والعظمة والاتكال على الذات وليس على نعمة الرب التي تعمل في ضعفنا كمال يقول مبشر الأمم وشهيد الحب الإلهي بولس الرسول. ” وقد جئت إليكم وبي ضعف وخوف ورعدة شديدة، ولم يعتمد كلامي و تبشيري على أسلوب الإقناع بالحكمة، بل الى أدلة الروح والقوة، كي لا يستند أيمانكم إلى حكمة الناس بل إلى قدرة الله” . (1 قورنتس 2/ 3 – 4).
إن ثقافة اليوم، التي انتشرت سريعا في عالمنا بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي المتطورة، سلبتنا نعمة الصمت والتأمل والاختلاء التي هي ضرورية للصلاة المؤثرة والفعالة. هذه الوسائل لا تخلوا من الإيجابيات لكن سلبياتها هى أيضا كثيرة ومدمرة في بعض الأحيان، إذ عوض ان نسيطر عليها ونستعملها بحكمة وفطنة أصبحت هي تسيطر علينا وتقودنا كما تشاء وهناك من أصبح مدمنا عليها ولا يستطيع الأفتراق عنها، هذا يعني أنها حرمتنا من حريتنا و استعبدتنا لها. إنها كارثة حقيقية يجب تداركها قبل فوات الأوان.
أمنا مريم العذراء، هي أيقونة الصلاة الصامتة التي تعطي الأولوية لسماع كلمة الله والتأمل بها، ولهذا طوبها يسوع حينما قال: ” طوبى لمن يسمع كلمة الله ويحفظها” (لوقا 11/ 28). صلاة الوردية، التي هي السلاح القوي الذي بواسطته نستطيع الصمود أمام العالم ومغرياته، عالم الفوضى والضجيج، يجب أن لا نتوانى عن ممارستها يوميا. كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية يصف صلاة الوردية ب”خلاصة الأنجيل كله” (عدد 971 ). صلاة الوردية تدعونا إلى التأمل مع مريم في كافة مراحل حياة يسوع منذ الحبل به وولادته وتبشيره بملكوت الله وآلامه وموته وقيامته وصعوده الى السماء وإرساله الروح القدس للتلاميذ. هذه الصلاة التي تدعى أيضا صلاة الفقراء والمساكين هي ينبوع بركات كثيرة ونعم غزيرة حينما تخرج من قلب تملأه المحبة لتلك التي ساهمت مساهمة نشطة في سر التدبير الخلاصي الذي تحقق بموت وقيامة ربنا يسوع المسيح له كل المجد والاكرام والسجود. الدرس المهم الذي تعلمنا إياه هذه الصلاة هو: ان الإيمان يتطلب منا اتباع يسوع المسيح عن كثب والعيش معه وليس فكرة مجردة أو معرفة نظرية عن الله، بل إنه خبرة حقيقية نعيشه في كل تفاصيل حياتنا اليومية. (يوحنا 1/ 38-39 ). هذه هي الميزة الأساسية التي تميز بها إيمان مريم امنا، من خلال ايمانها شاركت يسوع حياته الارضية وهي الان تشاركه حياته السماوية.
لنصل ونطلب من الروح القدس، معلم الصلاة الأول، أن يمنحنا نعمة صلاة الصمت والتأمل والاختلاء لكي ندع صوت الله يخترق حياتنا ويسكن قلوبنا ونستمتع بحضوره فينا.
أرجو من الذين يقرأون هذه الأسطر أن يصلوا من أجلي كي أعيش ما تبقى لي من الحياة الزمنية بالإيمان والرجاء والمحبة وشهادة الحياة حتى النهاية. مع الشكر ولنبق متحدين بالصلاة.