بمناسبة أحد كلمة الله، ترأس البابا فرنسيس القداس الإلهي في بازيليك القديس بطرس.
وألقى قداسته عظة قال فيها: ترك يسوع حياة النّاصرة الهّادئة والخفية وانتقل إلى كفرناحوم، مدينة تقع على شاطئ بحر الجليل، وهي مكان عبور، ومفترق طرق لشعوب وثقافات مختلفة. والحاجة الملحّة التي دفعته هي إعلان كلمة الله، التي يجب أن تبلغ الجميع. نرى في الواقع في الإنجيل أنّ الرّبّ يسوع يدعو الجميع إلى التوّبة، ويدعو التّلاميذ الأوائل لكي ينقلوا أيضًا نور الكلمة إلى الآخرين. لنَسِرْ مع هذه الديناميكيّة، التي تساعدنا لكي نعيش أحد كلمة الله: إن الكلمة هي للجميع، والكلمة تدعو إلى التّوبة، والكلمة تجعلنا مبُشِّرين.
كلمة الله هي للجميع
أضاف: أوّلًا، كلمة الله هي للجميع. يقدّم لنا الإنجيل يسوع في حركة دائمة، وفي مسيرة نحو الآخرين. ولم يعطنا في أيّ مناسبة من حياته العلنيّة الانطباع بأنّه معلّمٌ ثابت في مكانه، أو معلِّم يجلس على كرسيه. بل على العكس، نراه متجوِّلًا وحاجًّا، يطوف المدن والقرى، ويلتقي الوجوه والقصص. قدَماه هما قدَمَا الرّسول الذي يبشّر بالبشرى السارة لمحبّة الله. في جليل الأمَم، على طريق البحر، عبر نهر الأردن، حيث كان يسوع يعظ، كان هناك – يشير النّص – شعبٌ كبير تغمره الظّلمة: غرباء ووثنيّون ونساء ورجال من مناطق وثقافات مختلفة. الآن يمكنهم هم أيضًا أن يرَوا النّور. وهكذا وسّع يسوع الحدود: كلمة الله، التي تشفي وتُنهض، ليست موجّهة فقط إلى الأبرار في إسرائيل، وإنما إلى الجميع. تريد أن تبلغ البعيدين، وتريد أن تشفي المرضى، وتريد أن تخلّص الخطأة، وتريد أن تجمع الخراف الضّالة، وأن تريح أصحاب القلوب المتعبة والمُضطَهَدة. باختصار، يزيل يسوع الحدود لكي يقول لنا إنّ رحمة الله هي للجميع.
تابع: إنّ هذا الجانب أساسيّ لنا أيضًا. يذكّرنا بأنّ الكلمة هي عطيّة موجّهة إلى كلّ واحد منّا، وبالتالي لا يمكننا أبدًا أن نحُدَّ مجال عملها لأنّها، بخلاف جميع حساباتنا، تنبت بشكل تلقائي وبصورة مفاجئة وغير متوقّعة، في الطّرق والأوقات التي يعرفها الرّوح القدس. وإن كان الخلاص موجَّهًا للجميع، حتّى للبعيدين والضّائعين، فيجب إذن على إعلان الكلمة أن يصبح من المتطلّبات الملحَّة الرّئيسيّة للجماعة الكنسيّة، كما كان الحال بالنسبة ليسوع. فلا يحدُثْ لنا أن نعترف بإله قلبه كبير، ونكون كنيسة قلبها ضيّقًا؛ أو أن نبشّر بالخلاص للجميع ونجعل الطّريق لقبوله وعرًا ولا يمكن الوصول إليه، أو أن نعرِف أنّنا مدعوّون لكي نعلن الملكوت، ونهمل الكلمة، ونضيع في العديد من النشاطات الثانوية. لنتعلَّمْ من يسوع أن نضع الكلمة في المحور، وأن نوسّع الحدود، وننفتح على الناس، ونخلق خبرات لقاء مع الرّبّ، عارفين أنّ كلمة الله “غير مبلورة ومحصورة في صيغ تجريديّة وثابتة، بل هي تاريخ مندفع يصنعه أشخاص وأحداث وأقوال وأفعال وتطوّرات وتوترات”.
كلمة الله تدعو إلى التوبة
وقال: نصل الآن إلى الجانب الثاني: كلمة الله، الموجّهة إلى الجميع، تدعو إلى التّوبة. في الواقع، يكرّر يسوع في كرازته: “تُوبوا، قدِ اقتَرَبَ مَلكوتُ السَّمَوات”. هذا يعني أنَّ قُربَ الله ليس أمرًا حياديًّا، وحضوره لا يترك الأشياء كما هي، ولا يدافع عن الحياة الهادئة. بل على العكس، لأن كلمته تهزّنا، وتزعجنا، وتحثّنا على التّغيير وعلى التّوبة وتضعنا في أزمة لأنّها “حَيّة ناجِعة، أَمْضى مِن كُلِّ سَيفٍ ذي حَدَّين […] وبِوُسْعِها أَن تحكُمَ على خَواطِرِ القَلْبِ وأَفكارِه”. نَعَم، مثل السّيف، تخترق الكلمة الحياة، وتجعلنا نحكم على خواطر القلب وأفكاره، أي تجعلنا نرى ما هو نور الخير الذي يجب أن نفسح له مكانًا، وأين تتكاثف ظلمة الرّذائل والخطايا التي يجب مقاومتها. عندما تدخل الكلمة فينا، تحوِّل قلبنا وعقلنا. تغيّرنا وتحملنا لكي نوجّه حياتنا نحو الرّبّ.
أضاف: هذه هي دعوة يسوع، الله اقترب منك، لذلك تنبّه لحضوره، وافسح مكانًا لكلمته وستغيّر نظرتك إلى حياتك. أودّ أيضًا أن أقول ذلك على هذا النحو: ضع حياتك تحت سلطة كلمة الله. هذا هو الدرب الذي تدلّنا عليه الكنيسة: جميعًا، ورعاة الكنيسة أيضًا، نحن نخضع لسلطة كلمة الله، وليس لأذواقنا وميولنا وأولوياتنا، وإنما لكلمة الله الواحدة التي تصوغنا وتهدينا وتطلب منّا أن نكون متّحدين في كنيسة المسيح الواحدة. لهذا، أيّها الإخوة والأخوات، يمكننا أن نسأل أنفسنا: أين تجد حياتي وجهتها، ومن أين أستقي توجيهاتي؟ أمن الكلمات الكثيرة التي أسمعها أم من كلمة الله التي ترشدني وتطهرني؟ وما هي الجوانب التي تتطلّب التّغيير والارتداد في داخلي؟
كلمة الله تجعلنا مبشّرين
وقال: وأخيرًا كلمة الله، الموجّهة إلى الجميع وتدعو إلى التّوبة، تجعلنا مُبشِّرين. في الواقع، مَرَّ يسوع على ضفاف بحر الجليل، ودعا سمعان وأندراوس، أخوَيْن كانا صيَّادَي سمك. دعاهما بكلمته لكي يتبعاه، وقال لهما إنّه سيجعلهما “صَيَّادَيْ بَشر”: لن يكونا بعد الآن خبراء في القوارب والشّباك والأسماك وحسب، وإنما خبراء في البحث عن الآخرين أيضًا. وكما تعلَّما بالنسبة للإبحار وصيد السّمك، أن يتركا الشّاطئ وأن يلقيا الشّباك في عرض البحر، بالطريقة عينها، سيصبحان رسولان قادرَين على الإبحار في بحر العالم المفتوح، وعلى الذهاب للقاء الإخوة وإعلان فرح الإنجيل. هذه هي ديناميكيّة الكلمة: هي تجذبنا إلى شبكة محبّة الآب، وتجعلنا رسلًا يشعرون برغبة جامحة بأن يُصعِدوا في قارب الملكوت، جميع الذين يلتقون بهم. لذلك لنسمع اليوم نحن أيضًا الدعوة الموجّهة لنا لكي نكون صيّادي بشر: ولنشعر بأنّ يسوع يدعونا لكي نعلن كلمته، ونشهد لها في المواقف اليوميّة، ونعيشها في العدالة والمحبّة، و”نجسدها” بالعناية بجسد المتألّمين. هذه هي رسالتنا: أن نصبح باحثين عن الضّالين، وعن المضطهدين والمُحبطين، لكي نقدّم لهم لا أنفسنا، بل تعزيَة الكلمة، وإعلانَ الله المدوّي الذي يحوِّل الحياة، وفرحَ المعرفة أنّه أبٌ يتوجّه إلى كلّ واحد منّا، وجمالَ أن نقول: “يا أخي، يا أختي، إن الله قد أصبح قريبًا منك، أصغِ إليه وستجد في كلمته عطيّة رائعة!”.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول: أيّها الإخوة والأخوات، أريد أن أختتم وأقول ببساطة “شكرًا” للذين يجتهدون لكي توضع كلمة الله مجدّدًا في المحور، وتتمّ مشاركتها وإعلانها. شكرًا للذين يدرسونها ويتعمّقون في غناها. شكرًا للعاملين الرّعويّين ولجميع المسيحيّين الملتزمين بالإصغاء إلى الكلمة ونشرها، ولاسيما للذين نالوا خدمة القارئ وخدمة أستاذ التّعليم المسيحي: واليوم سأمنح هذه الخدمة للبعض منهم. شكرًا لجميع الذين قبلوا النداءات العديدة التي وجّهتها لكي يحملوا الإنجيل معهم في كلّ مكان ويقرأوه كلّ يوم. وأخيرًا، شكر خاص للشمامسة والكهنة: شكرًا أيّها الإخوة الأعزّاء، لأنّكم لا تكفُّون عن إعطاء شعب الله المقدّس غذاء الكلمة. شكرًا لأنّكم تلتزمون بالتأمل بها وبعيشها وإعلانها. شكرًا على خدمتكم وتضحيّاتكم. ليكن فرح إعلان كلمة الخلاص اللطيف تعزيةً ومكافأةً للجميع.